د. جبريل العبيدي
كاتب وباحث أكاديمي ليبي. أستاذ مشارك في جامعة بنغازي الليبية. مهتم بالكتابة في القضايا العربية والإسلامية، وكتب في الشأن السياسي الليبي والعربي في صحف عربية ومحلية؛ منها: جريدة «العرب» و«القدس العربي» و«الشرق الأوسط» اللندنية. صدرت له مجموعة كتب؛ منها: «رؤية الثورات العربية» عن «الدار المصرية اللبنانية»، و«الحقيقة المغيبة عن وزارة الثقافة الليبية»، و«ليبيا بين الفشل وأمل النهوض». وله مجموعة قصصية صدرت تحت عنوان «معاناة خديج»، وأخرى باسم «أيام دقيانوس».
TT

صدمة النخاسة في ليبيا

صدمة الحديث عن وجود أسواق للنخاسة في ليبيا، رغم عدم إثباته، لا يزال صداها في الشارع الليبي، بل والدولي، خصوصاً بعد إنزال أفارقة غاضبين العلم الليبي من فوق السفارة الليبية لدى فرنسا، بعد نشر فيديوهات صادمة أظهرتها شبكة «سي إن إن» أعقبها تحليل لم يراعِ المهنية في نقل الخبر، وجعل منها «دليلاً» دون دليل على وجود سوق أو أسواق للنخاسة وتجارة الرقيق في ليبيا، ودون تقديم إثبات مقنع يثبت مكان وزمان التصوير ومصداقيته.
أعتقد أن الأمر سيبقى أشبه بتضليل إعلامي في أزمة إنسانية طالت وتعثرت سبل حلها، وهي «الهجرة غير النظامية» التي يطلق عليها خطأ «الهجرة غير الشرعية»، في حين قالت السلطات الليبية التي فتحت تحقيقاً في الحادثة: «ليبيا ليست مسؤولة عن تهجير هؤلاء الآلاف من أوطانهم، في الوقت الذي تعاني فيه من وجودهم على أرضها، منتهكين حرمتها وقوانين الدخول إليها والإقامة فيها».
فالحقيقة أن السلطات الليبية لا تتحمل مسؤولية هؤلاء المتسللين إلى أراضيها، لأنهم في الأصل دخلوا أراضيها من دون علم أو إذن السلطات حتى يكتسبوا حق التمتع بالحماية، فهم تسللوا إلى الأراضي الليبية عبر مهربين وتجار الهجرة عبر الصحراء، لأن ليبيا تعد لهم مجرد بلد عبور يختبئون فيه حتى من أعين السلطات، مما يجعلهم ضحية سهلة للمهربين طوال رحلة الهروب أو الهجرة، خصوصاً في بلد يعاني من فوضى الميليشيات المسلحة وغياب السلطة المركزية للدولة.
ما حدث وما أظهرته وسائل الإعلام لا يخرج عن أنه متاجرة بقضية إنسانية، فلو كانت هناك فعلاً سوق أو أسواق للنخاسة في ليبيا وتجارة للعبيد، لكانت هناك سوق عمل أو مكان توظيف لهؤلاء «العبيد»، خصوصاً أن ليبيا تعاني من بطالة كبيرة، ولا سوق للعمل فيها، ولا زراعة ضخمة في حاجة لسوق من العبيد، ولا حتى كثرة مصانع أو صناعة تتطلب هؤلاء العبيد المفترضين للبيع والعمل.
فمن اشترى، ومن باع، وأين تم الاستخدام أو ممارسة طقوس «العبودية»؟ أسئلة متعددة تفتح الباب نحو الحقيقة، التي بدايتها: أين هم «العبيد»؟
الأمر لا يخرج عن ممارسة نوع من الضغط السياسي والإحراج للسلطات الليبية أكثر مما هي فيه من حالة انقسام وتشظٍّ سياسي، لدفعها نحو الموافقة على توطين المهاجرين غير النظاميين في ليبيا، وهو المشروع الخفي الذي تتبناه إيطاليا وألمانيا وفرنسا لتغيير الديموغرافيا السكانية في ليبيا من ناحية؛ والحد من تدفق موجات تسونامي المهاجرين نحو شواطئ أوروبا.
المهاجرون الجياع وجهتهم ليست ليبيا، ولا هي طموحهم، وما هي إلا معبر بالنسبة لهم، ولهذا لن يرضوا بالتوطين فيها، خصوصاً وهي الآن تعيش ظروفاً صعبة لا تختلف كثيراً عن بلدانهم التي جاءوا منها جياعاً حفاة عراة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
المعالجة الغربية لا تزال قاصرة عن حل أزمة المهاجرين، فهي لا تزال تراوح في إطار الحلول الأمنية والتهديد بإغراق السفن، بدلاً من البحث عن حلول ناجعة مستدامة تضمن لهؤلاء الجياع الحفاة وطناً بديلاً آمناً ولقمة عيش كريمة دون إذلال.
قصة سوق النخاسة الليبية في اعتقادي مسرحية هزيلة وفقاعة إعلامية لا تخرج عن إطار العبث والاستهتار بقضية إنسانية كبيرة تحتاج لتكاتف دولي لحلها بدلاً من ممارسة السبق الصحافي والإعلامي بصورة أو مشهد مجتزأ.