خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

سلام على الكتبجية

نحن نذكر بالخير جمهور الكتاب والنقاد والمؤلفين والناشرين والمحررين، ولكن قلما يخطر لنا أن نذكر من يسوق بضاعتهم، الكتبجي، الرجل الذي يعرض ويسوق ويبيع كتبهم. بين هؤلاء القوم شخصيات فذة لهم أفضال عميمة على أهل العلم والأدب. يوجد مثل هذا الشخص في سائر العواصم العربية.
أتذكر منهم في بغداد السيد عبد الأمير الحيدري. كان يجلس بجبته السوداء وعمامته الخضراء محاطاً بالكتب في دكانه المتواضع في شارع المتنبي، شارع الكتبجية والقلمجية. كان له ولدان، السيد كاظم والسيد شمس الدين. واصلا هذه المهنة من بعده.
بادر شمس الدين لإقامة معرض للكتاب العراقي في القاهرة تحت رعاية نائب رئيس الحكومة المصرية، والسفير العراقي رجب عبد الكريم. حضر الحفل كبار الكتاب المصريين من طه حسين إلى عباس محمود العقاد. وكان من الطريف أن يسأل العقاد السيد شمس الدين عن سعة دنيا الكتب في العراق، «يعني فيه ناس كتير يقرون عندكم؟» يبدو أن الأديب الكبير لم يسمع بعد بالمقولة «مصر تكتب ولبنان تنشر والعراق يقرأ».
بيع الكتب ليس بالعملية التجارية الصرفة. مثلما لا يشتري الكتاب غير من يحب الكتب نجد أن لا أحد ينشر ويبيع الكتاب غير من يحب الكتب والثقافة. وهو ما انطبق تماماً على السيد الحيدري. من المأثور عنه قوله: إنه لم يبع أي كتاب لم يقرأه. ومن أفضاله أنه كان يخصص مكاناً في دكانه للتلاميذ والباحثين والشعراء ليجلسوا ضيوفاً عليه ويتصفحوا ويقرأوا ما كان يهمهم ويدونوا ملاحظاتهم، بل ويسألوا صاحب الدار. كثيراً ما دخلوا بمناقشة معه. يروي مؤيد الحيدري، ابن أخيه أنه جاءه يوماً رجل يسأل عن كتاب «نهج البلاغة». فقال له الكتبجي، آسف ما عندي هذا الكتاب.
كان مؤيد قد لاحظ وجود الكتاب على الرف. فقال لعمه عبد الأمير، هذا الكتاب موجود هناك. فغمزه بنظرة خاصة تعني اسكت أنت. وبعد أن انصرف الزبون قال له: «ابني هذا الرجل ليس على قد هذا الكتاب! عيب أبيعه له».
بهذا القدر كان السيد عبد الأمير يتعامل مع كتبه. يتجاهل الزبون إذا وجده غير أهل للكتاب. وبعين الوقت يخفض السعر له إذا شعر بعكس ذلك. كان يهمه مصير الكتاب. الكتاب الرصين للقارئ الحريص. الكتبجية المضبوط يلاحظون ذلك ويحرصون عليه.
تضخمت مجموعة الكتب في بيت صديقي المرحوم إسماعيل البنا. قال لا أدري ماذا أفعل بها وقد احتلت كل زوايا الدار. قلت له أعرفك بصديقي صاحب مكتبة الحكمة في لندن. تفاوض معه على بيعه هذه الكتب. فصعر خديه مشمئزاً وقال: «أبيعها؟!» الكتب يا أبو نايل ليست للبيع مثل البندورة والكرنب. الكتب للقراءة والاعتزاز بها. حرام تقول لي بع الكتب!
يظهر أن هذه القدسية للكتاب عموماً تعلمنا عليها من تعاملنا مع سيد الكتب، «القرآن الكريم». ليس بالكتاب الذي يباع ويشترى.