علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

عودة إلى: أإخوان مسلمون أم إخوان حرية؟

أستاذة دلال البزري...
قد تعتقدين أن قولي في معرض تلخيصي لكتيب «لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه»: إن سيد قطب - استناداً إلى هذا الكتيب - أعدم بسبب أربعة مقتطفات من كتابه «معالم في الطريق»، كان على سبيل التندر بمرويات الإخوان المسلمين. ويهمني أن أوضح أنني قلت ذلك القول على سبيل الإخبار عنهم لا على سبيل التندر بهم. ولتتأكدي أنني كنت جاداً في قولي، سأذكر لك هذه المعلومة:
في أول أطروحة جامعية كتبت عن سيد قطب، وكانت مقدمة إلى جامعة السربون، وقام بكتابتها مهدي فضل الله سنة 1974 للحصول على درجة دكتوراه، ذكر كاتب الأطروحة أن محمد علي الضناوي - أحد رجالات الحركة الإسلامية في لبنان - يذهب إلى القول بأن محاكمة سيد قطب استندت إلى «مقتطفات» من كتابه «معالم في الطريق»!
وما كان لا يعلمه مهدي فضل الله حين كتب تلك الأطروحة بالفرنسية وحين ترجمها إلى العربية، أن كلام الضناوي الذي قدمه بوصفه شهادة شفاهية خاصة بأطروحته، منقول من كتيب «لماذا أعدم سيد قطب وإخوانه»، الذي قرأه الأخير في منتصف عشرينات عمره وأنه كان - وإن أوهمه بغير ذلك - لا يدلي بمعلومة عرف بها من مصادر شخصية وسرية.
وما قمت به هو عدّ تلك «المقتطفات»، فوجدت أنها أربعة مقتطفات. وهذه الأربعة مقتطفات تعبر - بوجه عام - عن منطوق ما سماه الباحثون في الفكر الإسلامي المعاصر، وكذلك سماه أبو الحسن الندوي: «الإسلام الهجومي». وهو الإسلام الذي اخترعه النمساوي محمد أسد والهندي أبو الأعلى المودودي في وقت متقارب في ثلاثينات القرن الماضي. ولتوضيح أن ما قاله الإخوان المسلمون في ذلك الكتيب عن سبب إعدام سيد قطب، محض افتراء، سأذكر معلومة قد تكون غير ذائعة في أوساط الباحثين والمثقفين العرب، وهي: أنه في مشروع قانون تطوير الأزهر الصادر سنة 1961، أيام الوحدة بين مصر وسوريا، تضمن ذلك المشروع تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في كليات الأزهر، وفق ذلك المنطوق، لأن السوري الإخواني محمد المبارك عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق وقتذاك، كان أحد المساهمين الرئيسيين في صياغة ذلك المشروع، وهو الذي اقترح تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في كليات الأزهر بنهج صار يسمى في ثمانينات القرن الماضي، بـ«التنظير الأصولي للإسلام». وكان للمبارك سابق تجربة في هذا الأمر، فهو الذي أدخل تلك المادة بذلك النهج في منهج السنة الأولى في كلية الشريعة، حينما أنشئت في الجامعة السورية سنة 1954.
وفي المقابل فإن هذا الذي أعدم بسبب أربعة مقتطفات من كتابه «معالم في الطريق» - حسب افترائهم في ذلك الكتيب - يقدمونه على أنه «عاش عمره كله لا يملك سلاحاً يدافع به عن عقيدته ودعوته إلا قلمه وبيانه... ولم يكن في يوم من الأيام يؤمن بالاغتيال والتخريب، وإنما عاش حياته كلها يؤمن بأن الأوضاع لا تغير ولا تصلح إلا بالفكرة والاقتناع».
سأقدم الآن ملحوظات مستقلة في الحيز عن الملحوظات التي أبديتها في متن تلخيصي لذلك الكتيب.
اقتراض مفهوم التاريخ وتحديد جوهره بالوعي المطرد بالحرية بوصفه غاية حتمية كما هو عند هيجل، وزجه بمقاصد الدين وغاياته في الإسلام من خلال تكييف ديني أصولي منغلق متزمت، تلفيق إسلامي محدث كان أول من أشاعه في العالم العربي، الهندي أبو الحسن الندوي في رسائل قصيرة في منتصف القرن الماضي، تأثر بها سيد قطب وسواه من رواد الفكر الإسلامي الأصولي العرب وكتبة الإخوان المسلمين كافة.
يصور الكتيب أن الإخوان المسلمين هم الجماعة المسلمة الوحيدة في مصر وخارج مصر التي رضي الله عنها، والبرهان على ذلك أنه اختار منهم عشرة سماهم الكتيب (وآخرين لم يسمهم)، لنيل شرف الشهادة في سبيل إعلاء كلمته، وقصرها عليهم!!
محاكمة سيد قطب وأعضاء التنظيم الذي يرأسه وإعدامه وإعدام هواش وعبد الفتاح، وسجن بقية التنظيم في أحكام متفاوتة ما بين أشغال شاقة مؤبدة وأشغال شاقة كانت بسبب تخطيطهم لتنفيذ انقلاب على السلطة، يتضمن اغتيال بعض رجالها وتدمير منشآت حيوية وأساسية في بلادهم، وليس بسبب تأليف سيد لـ«معالم في الطريق». فهذا الكتاب كان قضية جزئية في مساءلة المحكمة. ومع أن القضية كانت كذلك إلا أنهم استطاعوا أن يقنعوا جماعات كثيرة في العالم العربي والعالم الإسلامي ولفيف من الصحافيين والباحثين الغربيين عبر عقود طويلة أن القضية كانت في الكتاب. فالكتاب - كما صوّره الكتيب - صرخة من أجل الحرية، ومؤلفه ذهب ضحية لأنه أطلقها في سبيل الحرية والفكر بمعنييهما المطلقين، وضحى من أجل الإسلام، بالمعنى الديني الإسلامي الحصري. كما صوروا أنفسهم في الكتيب بأنهم ليسوا سوى مناضلين في سبيل الحرية وفي سبيل الإسلام.
نفوا في كتيبهم أن عبد الناصر أعدم سيد قطب - كما عبروا - لحقد شخصي عليه، مع أن عبد الناصر أعدمه لسبب شخصي. كان بإمكان عبد الناصر أن يستثنيه من حكم الإعدام، نظراً لمكانته كداعية ومنظر ديني في العالم العربي والعالم الإسلامي بحجة مرضه، لكنه من الواضح أنه كان قد يئس منه. فلقد عامله بحلم وصفح، لكنه اكتشف أن سيداً لا يشفى غله سوى أن يُردى عبد الناصر قتيلاً، وينسف نظامه بتدمير ثوري ماحق. ويعتلي هو مكانه. فأعدمه غضباً وحنقاً عليه.
وكان إعدامه وادعاء أن إعدامه كان بسبب تأليف «معالم في الطريق» نكبة على الأجيال الإسلامية القادمة.
فالإخوان المسلمون الذين يدعون في خطاب متنافر أنهم إخوان مسلمون وإخوان حرية في آن، أفلحوا - عبر التضليل الدعائي - أن يصنعوا من حياة سيد ملحمة كبرى، وأن يصوروا كتابه بأنه معجز وخارق وساحر، إلى حد أن رئيس المحكمة اللواء فؤاد الدجوي يخشى أن يتلو سيد قطب شيئاً منه أمامه! والمحصلة أن سيداً وكتابه أصبحا عضّادتي باب التطرف الديني المكينتين في عقود سالفة.
هناك إصدار آخر لهذا الكتيب يختلف عن الأول أن حجمه بحجم كف اليد، وأن غلافه خلا من صورة سيد قطب، وأنه أضيف إلى مستهله قولان منحولان على لسان سيد قطب، وحذف هامش كان موجوداً في إصداره الأول.
وهذا الهامش المحذوف كان هو السبب السري أو الباطني لإعادة طباعة ذلك الكتيب.
في الإصدار الأول المطبوع سنة 1966، أطلقوا كذبة - بغرض التجييش والتهويل - في هامش أحد الصفحات، فكتبوا: «قضى الأستاذ الهضيبي نحبه ... في سجن عبد الناصر في القاهرة في ظروف غامضة مريبة لم تراع حق سنه المتقدم الذي تجاوز السبعين. رحمه الله»!
هذا هو ملخص الكتيب الذي قلت عنه في الرسالة السابقة، أنه الأساس والقاعدة في تلك الرواية المكذوبة، والذي أقول عنه بعد تلخيصي له، إنه ليس سوى منشور سياسي عقائدي تعمد التضليل والخداع والتزييف وحجب الحقائق بأكاذيب ملفقة.
لقد أطلت مجادلتك في هذا الشأن، لأنني رأيت أنه لا يليق بمن هو في مستواك الثقافي، وبقدر فطنتك، أن تنطلي عليه تلك الكذبة الصلعاء، ويرددها منذ ما يقارب العشرين عاماً. فأنت قلتها أول مرة في بحث قدمته في صنعاء في 7 سبتمبر (أيلول) سنة 1988، تحت عنوان «الإخوان المسلمون والوحدة: من حسن إلى سيد قطب»، ضمن أعمال ندوة «الوحدة العربية: تجاربها وتوقعاته» التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في تلك المدينة، المنشورة أعمالها في مجلد ضخم صدر عن المركز في أواخر سنة 1989.
وكما تعلمين فأنت أعدت نشر هذا البحث في كتاب لك اسمه «دنيا الدين والدولة: الإسلاميون والتباسات مشروعهم» صادر سنة 1994.
قلتِها أول مرة بهذه الصيغة: «تلك هي بالضبط حالة (معالم في الطريق) الذي قرر عبد الناصر إثر قراءته إعدام مؤلفه سيد قطب، لأنه استوعب خطورة فكرته على مشروعه السياسي العام». وهي الصيغة ذاتها - تقريباً - التي قلتها في المقال موضوع المناقشة المنشور في جريدة «العربي الجديد» الصادرة في لندن، وللحديث بقية.