د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

ثورة الإصلاح الكبرى

سوف نترك جانباً كل أشكال الضوضاء وأنواع الضجيج التي تحيط بالأحداث التي جرت في المملكة العربية السعودية خلال الفترة القصيرة الماضية. في يوم ما قادم لا ريب فيه فإن المؤرخين سوف يعكفون على التفاصيل، ومن ذهب ومن جاء، ولكن ما لا يمكن إغفاله اليوم هو جوهر التغيير الذي يجري في المملكة اليوم، لأنه ولا شيء غيره يمكنه أن يضع التفاصيل التاريخية في نسق مفهوم. هذا التغيير يقوم على حقيقتين؛ الأولى أن واقع المملكة لا يتناسب مع ما تملكه من قدرات وطاقات يمكنها أن تأخذ بها إلى مراتب أكبر بكثير مما هي حاصلة عليه الآن. والثانية أن طريقة صنع القرار، والسعي الدائم إلى التوافق ما بين أطراف عدة، قد جعلا التوافق لا يكون إلا عند الحد الأدنى الذي هو بطبيعته يعني الحركة البطيئة والمحافظة التي لا تسير بعيداً عن الحالة الراهنة. نتيجة هذه وتلك أنه لا بد من تركيز السلطة إلى الدرجة التي تجعلها ذات رؤية يمكن تنفيذها وتطبيقها والمحاسبة على إنجازاتها، وهو ما كان في «رؤية المملكة 2030» التي تقوم على أن المملكة حالياً تعمل بأقل من طاقتها بكثير، مقارنة بمساحتها وعدد سكانها وإطلالتها على البحر الأحمر والخليج العربي، بينما البحر المتوسط والمحيط الهندي على مرمى البصر. وباختصار فإنه لم يعد جائزاً ولا مطلوباً أن تظل السعودية بلداً «نفطياً» ريعياً، وعلى أي حال فإن هبوط أسعار النفط الأخير إلى ما دون النصف، ما كان عليه قبل عامين، يجعل ذلك مستحيلاً.
حجم السعودية وقدراتها إذن ترشحها لكي تكون دولة صناعية متقدمة ومرتبتها متقدمة في كل التقارير العالمية المشهودة، وحدوث ذلك لا يكون إلا من خلال ثورة إصلاحية كبرى. وفي العادة فإن الحديث عن «الثورة» و«الإصلاح» لا يكون جائزاً مثل خلط الزيت بالماء، ولكن التاريخ يمكنه دائماً أن يفضي بالكثير من العجب. فالحقائق الديموغرافية للمملكة تقودنا تماماً إلى ما وصلت إليه، حيث تبلغ نسبة الشباب فيها 70 في المائة من السكان، والأهم أنه خلال سنوات سابقة ذهب مائتا ألف سعودي للتعلم والمعرفة في بلدان العالم المتقدمة، ويعود منهم 35 ألفاً كل عام. هذه الشريحة الاجتماعية تعيش تناقضاً عميقاً بين ما تعلمته وتعيش فيه من ناحية، وحالة المحافظة التي تعيشها المملكة من ناحية أخرى. هذه الشريحة التي تقع بين سن 15 و35 عاماً هي قوام الكتلة الداعمة للأمير محمد بن سلمان ولي عهد المملكة الذي عهد إليه خادم الحرمين الشريفين بالمهمة الكبرى للإصلاح الجذري الذي سيضع المملكة على الطريق إلى مستقبل جديد. هذا المستقبل يخرج بالمملكة من عصر الدولة النفطية إلى عصر الدولة المنتجة، حيث قطاعات الاقتصاد المختلفة من الزراعة وهي قليلة، إلى الصناعة وهي ممكنة على نطاق واسع، والخدمات التي تتماشى مع بلد حديث واسع النطاق، والتعدين الذي تشهد أرض المملكة أن الاقتصاد النفطي كان يظلمه كثيراً. وكما هي الحال في بلد حديث، فإن مضاعفات القوة تضيف ما هو أكثر، وفي حالة المملكة فإن عمقها مع الشمال الغربي يتيح مدينة «نيوم» حيث «الروبوت أكثر من الإنسان» تمد أذرعتها إلى الأردن ومصر ومنهما إلى المشرق العربي والبحر المتوسط وأوروبا على الشاطئ الآخر. أما عمقها إلى الشرق فإن الرابطة مع دول مجلس التعاون الخليجي فيها من الخير الاقتصادي الكثير، ولكن الأهمية الاستراتيجية لا يفوقها شيء.
الفارق ما بين «الرؤية» و«الواقع» ليس أقل من «ثورة» تجاوزت كثيرين ممن كانوا في السلطة أو خارجها، الذين كان لديهم الهيبة من التغيير، أو خوفاً من عفاريت ما يفتحه التغيير من نتائج لم ينتوها أحد. ولكن الأمر ليس مغامرة ولا مقامرة، وإنما استهداف مجالات بعينها وقفت دائماً ضد اتجاهات التقدم، ويقع في مقدمتها التطرف الذي وقف ضد كل مظاهر الحداثة، معارضاً للتحديث. وكان العجب كبيراً عندما كانت قوى التطرف على استعداد للتجول شرقاً وغرباً وبين القاهرة وبيروت ومؤخراً دبي والمنامة، للتعامل مع ذات الأمور البهيجة التي يرفضون وجودها في الدولة. مثل هذا النفاق الاجتماعي لم يعد مقبولاً ليس فقط لأنه يسيء إلى صحيح الدين، وإنما أيضاً يشكل الأرضية المعنوية للإرهاب. محاربة التطرف والقضاء عليه وليس مهادنته والتعايش معه باتت مهمة كبرى للمملكة الجديدة سواء كان في المملكة ذاتها، أو في دول أخرى، أو عندما يصل إلى السلطة كما حدث في مصر؛ ففي مثل هذه الأحوال إما تدخلت المملكة وإما عاونت من حارب التطرف والإرهاب.
ومن عجب آخر أن التطرف بقدر ما كان سياسياً واقتصادياً وثقافياً فإن «المرأة» كانت دوماً هي محط عقابه وامتهانه. وكم كان مدهشاً لأجيال السعوديين الجديدة أن يجدوا بلادهم منفردة بين دول العالم التي لا تسمح للنساء بقيادة السيارات أو تشارك في المناسبات الوطنية الكبرى. ومن ثم فإن تحرير المرأة التي تعلمت وعملت وتحملت المسؤولية بات مهمة ترفع من شأن الأسرة السعودية من ناحية، وتفتح أبواباً واسعة للتقدم الإنتاجي من ناحية أخرى تغني المملكة عن كثير من الوافدين والمهاجرين. قرارات إعادة الحقوق إلى المرأة السعودية كانت مطروحة على طاولة القرار منذ وقت طويل، ومع ذلك لم يتم اتخاذها إلا الآن، حيث باتت السلطة السياسية مصممة وقادرة على اتخاذ القرار بعدما لم يعد لا التسويف ولا التأجيل ممكناً. كل ذلك يقودنا إلى أن محاربة التطرف وتحرير النساء هما وجهان لعملة واحدة، وهو الذي يعطي الدين جوهره في الرحمة والتراحم ويعيد المرأة إلى حيث ينبغي لها أن تكون مواطنة وإنسانة وليست حالة من الخطيئة والذنب والمعصية.
وفي الأمر تفاصيل أخرى كثيرة، ولكن الجوهر الذي أشرنا إليه هو ما سوف يهتم به التاريخ، وهو الذي بعد القرارات التاريخية الأخيرة ستبدأ انطلاقته الكبرى بتعبئة الموارد، وإطلاق المشروعات التي تنظر إلى المملكة على ضوء مساحتها التي هي ليست بقدر مساحات آبار النفط وإنما بقدر 2.149.690 كيلومتراً مربعاً، أي أكثر من مليونين من الكيلومترات المربعة، و33 مليون نسمة، وناتج محلي إجمالي مقوم بالقدرة الشرائية للدولار قدره 1.803 تريليون دولار يعطيها المكانة الرابعة عشرة بين اقتصادات العالم. هذه الانطلاقة سوف تأخذ المملكة ليس فقط إلى آفاق جديدة من الغنى، وإنما، وربما كان ذلك لا يقل أهمية، أن الإنسان السعودي سوف يدخل إلى العالم الطبيعي للإنسانية التي يتنسمها على صفحات التواصل الاجتماعي. تحقيق ذلك كله لن يكون سهلاً، ولم يحدث مثله في التاريخ دون ألم، ولكن الصعوبة والآلام هي التي تحدث التغيير الكبير في النهاية.