إميل أمين
كاتب مصري
TT

{كايسيد} والحوار... القضية والحل

لماذا تنشأ النزاعات الدامية بين بني البشر؟ علامة استفهام تستدعيها أحداث التاريخ وتتصاعد مؤخراً في ظل حالة الضبابية الكونية المواكبة للعنف المتفشي، والأرجح أن هناك أكثر من عامل ساعد ويساعد في تفشي الحروب، وفي المقدمة منها غياب مسارب وقنوات التواصل مع الآخر، شعوباً وقبائل، مدناً ودولاً، أفراداً وجماعات.
في نظريته عن «صدام الحضارات» يحدثنا صمويل هنتنغتون عالِم الاجتماع السياسي الأميركي عن أن ما يقارب من خمسين في المائة من جميع الصدامات المسلحة في الوقت الحاضر تعود إلى خلفيات التداخل الثقافي، بمعنى أوضح غياب صورة الآخر في الأذهان ما يقود إلى المشارعات والمنازعات.
هل من سبيل غير الحوار والجوار لتلافي عالم مليء بالكراهية والتعصب؟
الأيام القليلة الماضية كان مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات «كايسيد» يختتم أعمال برنامجه للزمالة الدولية، حيث اجتمعت لديه طائفة عريضة من الشباب العربي والأجنبي يمثلون مؤسسات تعليمية رائدة ومؤسسات ناشطة في مجال الحوار بين أتباع الأديان والثقافات بهدف تنمية قدراتهم وتعزيز ثقافة الحوار لديهم، ومن ثم تطبيق ذلك في المؤسسات والمعاهد التي تدرب وتدرس القيادات الدينية وإدخال لغة الحوار في عمل المؤسسات التعليمية الدينية.
تؤمن «كايسيد»، والحديث لفهد أبو النصر مدير مركز حوار الأديان في مركز الملك عبد الله العالمي، أنه ينبغي أن نزيد من معرفتنا بثقافات الآخر وأن ما ينجح في الحوار الضدي لهو مهم أيضاً للحوار البناء، فالآخر الذي يعرف المرء عنه شيئاً يصبح أقل غرابة والحوار يغدو أكثر سهولة.
في هذا السياق الفكري التقدمي تبقى رؤية برنامج الزمالة نظرة وثابة للأمام وفرصة نادرة للعاملين في المعاهد التعليمية الدينية في أنحاء العالم ومن مختلف الديانات والخلفيات الثقافية للتعلم من بعضهم البعض لا سيما أن معظم برامج التبادل الأخرى تركز على فئة معينة من مجتمع واحد.
على مدى عام كامل تلقى المشاركون في البرنامج تدريبات مكثفة لتقوية التزامهم بالحوار وتعزيز الاحترام والتعايش فيما بينهم، وكذا تزويد الشباب بالأدوات المعرفية والخبرات الثقافية لتعزيز ثقافة الحوار وبناء جسور التعاون والتعارف، وبما يمهد لوجودهم القيادي المستقبلي الفاعل كسفراء للحوار في مجتمعاتهم والحوار بين أتباع الأديان كوسيلة لتعزيز التعايش، إضافة إلى الآليات والوسائل التدريبية على موضوعات الحوار.
آفة البشرية في حاضرات أيامنا هي الخوف، فالبشر خائفون، ولكن الخوف هو أسوأ من يقدم النصيحة في غالب الأحيان، فيما يبقى أفضل طريق للتعامل مع الآخر هو الانفتاح وليس الانغلاق كوصفة محكمة مناسبة، سيما أن التطورات الكونية تقدم سبباً لنتوقع أن الأمور المشتركة بين المجتمعات تتوسع أكثر مما تتضاءل، وحيثما نبحث فإننا سنجد شريكاً للحوار واهتماماً في التعاون.
لعل أفعل ما في برنامج زمالة «مركز حوار الأديان»، الذي رعته «كايسيد»، هو أنه لم يتوقف عند الأطر النظرية للفكرة بل تجاوزها إلى الواقع العملي؛ ذلك أن المشاركين كلاً في دولته ومدينته عملوا على تطوير وتنفيذ مشروعات صغيرة محلية ودولية خلال مدة عمل البرنامج، فتنوعت المبادرات والأنشطة ما بين تدريبات على مبادئ الحوار وأهميته وأنشطة الحوار لتعزيز دور المرأة في المجتمع وكذلك دور الإعلام في نشر مفهوم الحوار والمواطنة، إضافة إلى بلورة أبحاث وكتب تعزز قيم الحوار واحترام التنوع وقبول الآخر.
والشاهد أنه إذا كان هنتنغتون يميل إلى القول بأن عالمنا المعاصر قد أضحى مركّباً ومعقداً ويحتاج من أجل فهمه إلى رؤية عالمية مركبة، بدورها فإن برامج مثل التي تقدمها «كايسيد» تدعونا للتساؤل حول التعايش البسيط غير المعقد أو المركب المليء بالمعادلات الضدية والذي يؤمن بمقولة جان بول سارتر، فيلسوف الوجودية الأشهر، «الآخرون هم الجحيم»، عالِم يعلنها صريحةً مريحةً نحن إخوة في الإنسانية نقف صفاً واحداً مع الخير ضد الشر ومع كرامة الإنسان ضد امتهانه، نحن «كل» يجمعنا كوكب واحد ومصير واحد وحياة واحدة، عالم يرفض التقسيم المانوي بين معسكري الخير والشر ومنطلق الـ«نحن» ضد الـ«هم» السهل المريح الذي لا يكلف النفس عناء الجهاد الروحي ولا الجسدي مشقة السعي في دروب التلاقي الوعرة غير المعبدة للسير في عالم العولمة المضطرب.
ما يقوم به مركز الملك عبد الله العالمي للحوار ومركزه فيينا وحضوره في كل العواصم العربية والغربية اليوم، يخدم بصورة أساسية مواجهة التطرف والغلو والراديكالية في المعسكرين الغربي والشرقي، حيث أحدهما يدعي أنه يقف في فسطاط الإيمان مقابل فسطاط الكفر، فيما الآخر يؤمن بأنه يقود معسكر الخير ضد محور الشر حتى يصور للرائي أن العالم تراجع دفعة واحدة إلى القرن الحادي عشر الميلادي.
لا شيء يوقف الفكر المتطرف سوى الفكر المعتدل ولا مناص من الحوار لتجنب الانعزالية.
يوماً تلو الآخر تزدهر شبكة زمالة «كايسيد» ليس فقط بالعدد ولكن بتنوع أعضائها واختلاف خلفياتهم، ساعية بذلك لتعزيز قيم التعددية المدخل الحقيقي لعالم الشراكات الإنسانية البناء والخلاق، وعالم النمو والازدهار والوصل والتواصل.
زمالة «كايسيد» تعني أن كل خريج أضحى سفيراً للحوار والسلام والتعايش في زمن أضحى فيه البشر خائفين، والحياة بضاعة هشة عرضة للعطب ومحفوفة بالمخاطر.