TT

بلفور... وعد المصلحة ووعيد الزمن

مائة عام سبحت في بحر الماضي، ولها وجود فوق الأرض. بريطانيا وعدت اليهود بوطن لهم في فلسطين، وتحقق الوعد بقوة المال والسياسة. الوعد البريطاني كان سنبلة بذرة حقبة التخثر الدولي، عالم اهتزت خرائطه. إمبراطوريات تسيل قوتها، تترنح ثوابت سلطتها. روسيا في حراك سياسي عنيف يضيق ويتسع. الإمبراطورية العثمانية تتآكل أطرافها والعاصمة تعاني ارتدادات الزلازل الخارجية التي طالت قصور الآستانة. الحرب العالمية الأولى كانت انفجاراً لاحتقان عالمي مؤجل. لقد شهد العالم تطورات علمية واقتصادية وفكرية غير مسبوقة، في حين بقيت المنظومة السياسية الدولية عتيقة التفت حولها عشرات، بل مئات الثقوب. الزمان ثوب الحياة الحي، تعيش فيه وتتحرك به، لكنه يتخرق بين مرحلة وأخرى. من غربال الزمن تتساقط كيانات، لكن أخرى تُولد وترتفع من أسفل إلى أعلى وتفرض نفسها فوق سطح غربال الزمن الجديد. بدايات القرن العشرين كانت المخاض لولادة عالم جديد من رحم زمن يغرب. فرنسا بعد ثوراتها نجحت في ترسيخ مؤسسات جديدة مستقرة، اتسع محيط مستعمراتها، وفرضت وجودها قوة ضاربة عسكرية واقتصادية دولية. بريطانيا تحصد ما زرعه العهد الفيكتوري من تقدم ونهضة علمية وفكرية واجتماعية وعسكرية برية وبحرية، إمبراطورية تدمنها الشمس. الولايات المتحدة الأميركية العملاق الغربي الذي تشد إليه رحال العقول والقلوب قبل أرتال المراكب. الإمبراطورية النمساوية المجرية يغشاها الذبول من داخلها، وتتصاعد فيها النزعات القومية. الإمبراطورية العثمانية بلغت سنَّ اليأس السياسي، وأصبحت أضعف الإمبراطوريات، فقد استولت القوتان الاستعماريتان فرنسا وبريطانيا على أجزاء كبيرة من كيانها القديم، واتسعت مساحة الوعي العرقي في باقي البلدان. خيط الدين الذي يربط شعوب الإمبراطورية العثمانية بعاصمة الدولة الآستانة تلاشى أمام اتساع المد العرقي والقومي الذي بدأته حركات في داخل تركيا ذاتها. محاولات تتريك الشعوب التابعة لها، واتساع التيار الطوراني التركي خلق صدى عند الشعوب غير التركية. (الرجل المريض)، كان ذلك مضمون التشخيص السياسي لحالة الإمبراطورية العثمانية، الذي أصبح يحتضر، بل على خطوة من القبر. كل ميّت له وريث أو أكثر. بريطانيا وفرنسا هما الوريثان اللذان شرعا في اقتسام التركة قبل دفن الراحل.
أصبح المشهد العالمي مهيأ لحلقة جديدة من رسم الخريطة الكونية القادمة. اندلعت الحرب العالمية الأولى، ألمانيا تهدف إلى أخذ مكان لها في عالم يتشكل، بريطانيا في تحالف مع فرنسا للحفاظ على وضع قائم يتحرك نحو أفق جديد دون أن يلغي هذا التحالف بينهما ما في الرؤوس من أهداف مختلفة. في الحروب يغدو كل شيء ورقة تقاتل، المال والجيوش والسياسة والأديان. تحالفت ألمانيا مع بقايا الإمبراطورية العثمانية، أرسلت مستشرقيها إلى بلدان إسلامية لتعبئة الرأي العام ضد أعدائها. بريطانيا التي خبرت طبائع الشعوب عبر مرحلة طويلة من استعمارها لشعوب كثيرة ومختلفة، ركضت بسرعة وبقوة لتوظيف أوراق متنوعة.
العرب الذين ضاقوا بهيمنة الإمبراطورية العثمانية، وتشكلت في بعض بلدانهم تنظيمات تحفّز الشعور القومي، تحركت بريطانيا نحوهم ليكونوا قوة منحازة لهم ضد القوات التركية في الجزيرة العربية والشام والعراق. تواصلت بريطانيا مع الشريف حسين، وأعطته وعوداً بقيام كيان عربي بعد الانتصار في الحرب على الدولة العثمانية. انضمت قوات عربية في الشرق إلى العمليات العسكرية للحلفاء، أما عرب شمال أفريقيا فكانوا خارج ذلك الاتفاق. مصر تحت الحماية البريطانية، وليبيا تحت الاستعمار الإيطالي، وتونس والجزائر والمغرب مستعمرات فرنسية.
الوريثان المتربصان فرنسا وبريطانيا سارعا إلى تقاسم التركة العثمانية، تفاديا للصدام بعد دفن الموروث (سايكس بيكو)، كان ذلك تقاسما وليس تقسيماً. لم تُوجد دول عربية، بل دولة عثمانية تتبعها أقاليم عربية وغير عربية. وطوال العهد العثماني غرق العرب في مستنقع الأمية والتخلف العلمي والجدب السياسي. لم يكن بإمكانهم تخليق قوة سياسية على الأرض تقتحم الدنيا الجديدة التي يتحرك نحوها المشهد الدولي العنيف.
كل أطراف الصراع العالمي الأول عملت على توظيف كل الأوراق. القوة الصهيونية برزت بوصفها ورقة سياسية ومالية لها امتدادها من روسيا إلى شرق أوروبا وغربها وكذلك الولايات المتحدة. قبل ذلك بسنوات انطلق ثيودور هرتزل يدعو إلى الدولة اليهودية، اتسعت الدعوة وتحلق حولها الآلاف، وتشكلت مجموعات يهودية في مختلف دول العالم توظف المال والإعلام في المحافل السياسية لتحويل الفكرة إلى مشروع. الحرب العالمية الأولى كانت حلقة الثقوب التي تساقطت منها قوى قديمة، وولجت منها قوى جديدة. في وسط تلك الحرب كانت الثورة البلشفية في أوجها، كان لليهود وجود في مفاصل تلك الثورة. في أميركا أصبحت القوة المالية اليهودية حقيقة لها ثأثيرها في القرار السياسي الأميركي.
بريطانيا استعملت الورقة العربية ضد عدوها الدولة العثمانية، عبر مراسلات الحسين مكماهون بوعد بدولة عربية، واستعملت الورقة الصهيونية عبر وعد بلفور بدولة يهودية في فلسطين. تحول الوعد الأول إلى وعيد، وجد العرب أنفسهم تحت الوصاية بعد نهاية الحرب، وحقق الوعد الثاني لليهود قيام دولة لهم فوق أرض فلسطين. تلك مفارقة يصنعها (ماكرو التاريخ). كيف كان ذلك؟ اليهود نجحوا في تأسيس أجسام سياسية ومالية، تغلغلت في دوائر صناعة القرار في بريطانيا وفرنسا وأميركا وبريطانيا. تحركوا لتحويل 67 كلمة خطّها الوزير البريطاني بلفور في وعده لهم، حولوه إلى نص عامل على الأرض. دعموا عبر مجموعات الضغط تولي بريطانيا الوصاية على فلسطين، بدلاً من فرنسا الكاثوليكية التي لها وجود قديم في الشرق العربي.
بين الحربين العالميتين كان همّ الوكالات والمنظمات الصهيونية ضخ أكبر عدد من اليهود إلى أرض فلسطين. بعد وصول النازيين إلى السلطة في ألمانيا تدفق اليهود إلى الولايات المتحدة، وشكلوا قوة مالية وسياسية مضافة للنفوذ اليهودي، وتوجه آخرون إلى فلسطين. في أتون الحرب العالمية الثانية كان تشرشل يبحث عن أوراق تقحم أميركا في الحرب إلى جانبه. لم يخفِ روزفلت الرئيس الأميركي إعجابه بموسوليني الزعيم الفاشي الإيطالي، لكنه لم يكن كذلك نحو هتلر. استعان تشرشل بالنفوذ اليهودي في أميركا لتحريك روزفلت نحو الحلفاء، استغل الصهاينة ذلك لجعل بريطانيا تغض البصر عن التدفق الصهيوني نحو فلسطين. في خضم حراك الصهاينة، كان العرب في شتات سياسي وسيولة مضطربة. بعد الحرب العالمية الساخنة شبت حرب باردة لم يجد العرب أرضاً يتوحدون فوقها. أدرك الفلسطينيون أبعاد الخطر ثأروا وقاوموا، لكن المخطط الصهيوني فتح فوهات التطهير العرقي الدموي، وقذف بالشعب الفلسطيني إلى خارج أرضه.
نهض المشروع الفلسطيني المقاوم سياسياً وعسكرياً على يد ياسر عرفات، بعد فشل معارك الجيوش العربية مع إسرائيل. المدرسة العرفاتية كانت المشروع الفلسطيني الذي أتقن قراءة الخرائط الإقليمية والدولية السائلة. لا يزال الفلسطينيون يتحركون بين الوعد الذي خلق إسرائيل، والوعيد الذي يحيا في صلابة الصمود والمقاومة الفلسطينية. الزمن له سعة إعجازية. له ثقوب تفتح كل شيء على كل شيء.