محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

الذكاء الثقافي

في ظل تنامي التوجهات اليمينية والعنصرية البغيضة في العالم بدافع كره الآخرين أو ازدرائهم، تأتي الأبحاث العلمية الرصينة لتؤكد أن المقدرة على التعايش مع الثقافات الأخرى تعد مؤشراً قوياً على بوادر نجاح الفرد في حياته.
وهذا ما يسمى بالذكاء الثقافي Cultural Intellegince أو CQ، وهو نوع من الذكاء يمكن قياسه بسهولة، واكتسابه أحياناً بالمران، غير أنه يختلف عن الذكاء التقليدي IQ والذكاء العاطفي EQ. فالذكاء الثقافي (CQ) نظرية انبثقت من دراسات متراكمة لأستاذة الإدارة في جامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة سون آنغ وأستاذ علم النفس التنظيمي كريستوفر إيرلي في كلية لندن للأعمال، حيث يعرفانها بأنها المقدرة على أداء العمل بفعالية في مجموعة متنوعة من الناس من ثقافات متعددة.
ولا غرابة حينما نسمع أن شركات شهيرة مثل «ستاربكس» صارت تلجأ إلى قياس الذكاء الثقافي لبعض موظفيها. فقد تبين أنه بالفعل مؤشر نجاح محتمل لتعايش المرء مع الآخرين المختلفين. وظهر ذلك جلياً في دراسات عدة منها ما أظهره العلماء عام 2011 حينما اكتشفوا أن الجنود السويسريين الذين شاركوا في مهمات ميدانية عبر الأمم المتحدة في بلدان أجنبية كان ذكاؤهم الثقافي أفضل عامل تنبأ بنجاحهم في تلك المهمات الخارجية (بنسبة 25 في المائة) مقارنة بعاملي الذكاء التقليدي (IQ) والذكاء العاطفي.
هذا الذكاء الثقافي صار مهماً في عالمنا في ظل تنامي نداءات محاربة ما يسمى بـ«الأجانب» أو «الوافدين»، حتى وإن كانوا من بني جلدتنا كالعرب المتميزين في عملهم. هو ما يعكس نوعاً من أنواع عدم الرغبة المبطنة في التعايش مع الآخر لكن البعض يغلفها بشعارات تشبه نداءات اليمينيين مثل فرنسا للفرنسيين. وننسى أن التعايش مع الآخرين المتميزين أمر مهم وصحي لأنه يثري بيئات الأعمال. وهذا التنوع بالمناسبة مديح تفاخر به الشركات الكبرى في أدبياتها وإعلاناتها حينما تقول: «نحن بيئة متعددة الثقافات» (multicultural)، وبعض القوانين الغربية تجرم قصر وظائف معينة على جنسيات محددة دون غيرها.
ولحسن الحظ، فإن الذكاء الثقافي وإن كان مسماه يبدو إنشائياً لكنه في الواقع يقاس بسهولة عبر أسئلة محددة تندرج تحت أربعة عناصر، وهي «محرك الذكاء الثقافي» أي مدى رغبتنا في اكتشاف الآخر، و«استراتيجية الذكاء الثقافي» وهي كيف نواجه صعوبات الحياة ونتعلم منها، و«معرفة الذكاء الثقافي» أي مدى فهم الفروقات الثقافية بين البشر من حولنا. أما المعيار الأخير المهم فهو «تنفيذ الذكاء الثقافي» الذي يمكن من خلاله معرفة مدى مرونتنا السلوكية وقابليتنا للتكيف مع ما يعترضنا من مواقف.
وهذا كله يشير إلى أن الذكاء الثقافي قد أصبح أداة علمية تأخذه كبريات المؤسسات بعين الاعتبار لكونه يحاول أن يُبين لبعض المترددين في الانسجام مع الثقافات والديانات والمذاهب الأخرى، بأنه يمكن العمل معاً وتحقيق نجاح يشار إليه بالبنان. كيف لا وقد بنيت الحضارة الإسلامية والغربية الحالية على سواعد أعراق مختلفة؟