علي العميم
صحافي ومثقف سعودي بدأ عمله الصحافي في مجلة «اليمامة» السعودية، كتب في جريدة «الرياض» وكتب في جريدة «عكاظ» السعوديتين، ثم عمل محرراً ثقافياً في جريدة «الشرق الأوسط»، ومحرراً صحافياً في مجلة «المجلة» وكتب زاوية أسبوعية فيها. له عدة مؤلفات منها «العلمانية والممانعة الاسلامية: محاورات في النهضة والحداثة»، و«شيء من النقد، شيء من التاريخ: آراء في الحداثة والصحوة في الليبرالية واليسار»، و«عبد الله النفيسي: الرجل، الفكرة التقلبات: سيرة غير تبجيلية». له دراسة عنوانها «المستشرق ورجل المخابرات البريطاني ج. هيوارث – دن: صلة مريبة بالإخوان المسلمين وحسن البنا وسيد قطب»، نشرها مقدمة لترجمة كتاب «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» لجيميس هيوارث – دن مع التعليق عليه.
TT

خبايا وخفايا بين سيد قطب وعبد الناصر

أستاذة دلال البزري...
لعلكِ تذكرين ما قلتُه لكِ في رسالة سابقة من أنه كان يجب على شريف يونس أن يصوغ القضية التي طرحها عبر السؤال الآتي:
الإذن الرسمي الذي يسمح لسيد بالتأليف، كان يقتصر على كتابه «في ظلال القرآن»، فلماذا سمح له النظام الناصري بتأليف كتب جديدة؟!
هذا السؤال صعب. وأعده هكذا، لأنه لا تتوفر بين أيدينا معلومات، حتى لو كانت نتفاً أو هي مخبأة بين السطور، نقدم على أساسها إجابة يقينية. ولعل أول ما نجهله هو كيف تم هذا الأمر: هل بمبادرة من عبد الناصر أم هو استجابة منه لطلب تقدم سيد به، استناداً إلى أنه سمح له بتنقيح (اصطلاح التنقيح يشمل فيما يشمل الإضافة والزيادة) ما كتبه سابقاً؟
ونظراً إلى هذه الصعوبة التي أشرت إلى طبيعتها، ستكون إجابتي هجساً وتخميناً لكنها مبنية على استقراء معطيات مدفونة في تاريخ ثورة 23 يوليو (تموز)، وتاريخ سيد. وقبل أن أجيب عن ذلك السؤال، أستأذنكِ في أن أقدّم إضمامة تمهيداً للجواب.
بين كثير من الضباط الأحرار - بمن فيهم عبد الناصر - وبين سيد صلة سياسية وفكرية عامة نشأت قبل ذهاب سيد في بعثة تدريبية إلى أميركا في 3-11-1948، وتعززت هذه الصلة مع صدور كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» سنة
1949، الذي صدر وهو لا يزال مبتعَثاً في أميركا ومع عودته منها إلى مصر. وتعززت هذا الصلة أكثر فأكثر مع نجاح الضباط الأحرار في اعتلاء السلطة في بلادهم، بمناصرته شديدة الحماس لهم، من خلال ما كتبه في التبشير به والتنظير لهم في السنوات الأولى لسلطتهم.
تلك الصلة السياسية والفكرية العامة ممكن أن نتلمسها في ضعف إيمانهم وموالاتهم للقصر، وفي رفض التعددية الحزبية والعداء للشيوعية والشعور بأنها خطر يتهدد مصر، والاتجاه إلى أميركا وعقد تحالف سياسي وإلى حد ما تحالف ثقافي وفكري معها، للاستقواء بها على المحتل البريطاني من جهة، ولعدم تمكين الشيوعيين من نشر فكرهم على نطاق واسع وإشعال ثورة شيوعية في المجتمع المصري. ومن القواسم المشتركة أيضاً الارتكاز إلى الإسلام بصيغة تخالف الصيغة التي يقوم عليها فكر الإخوان المسلمين، مع تباين بينهم وبين سيد في فهم الإسلام، إذ إن فهمهم يستند إلى بعد ليبرالي منفتح، أما هو فكان يغذّ السير إلى فهم أصولي متزمت للإسلام، ابتداءً بكتابه المشار إليه آنفاً، ولقد زاد هذا الأمر عنده في أثناء بعثته إلى أميركا، لأسباب جداً شخصية.
في مضمار مواجهة الشيوعية اعتقد معظم الضباط الأحرار - واعتقد الإخوان المسلمون معهم - أن سيد بكتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» حقق شيئاً في هذا المضمار، ذلك لأنه في هذا الكتاب استولى على مفهوم أساسي في الماركسية – وهو مفهوم العدل الاجتماعي بصيغته الماركسية – ونظّر إليه من داخل العقيدة الإسلامية، بحيث جعله ركناً أساسياً فيها، وبالتالي لا حاجة إلى الشيوعية ككل أو في بعض أجزائها وتطبيقاتها، وقد أهّل سيد لعمل استراتيجية الاحتواء هذه أنه كان يقرأ في الماركسية بوعي مضاد.
التفاتة أميركا إلى مصر على غير تصور شائع – كما حدّثنا عن ذلك رجاء النقاش– منذ وقت مبكر من القرن الماضي، وكان من علامات هذه الالتفاتة إنشاء الجامعة الأميركية فيها سنة 1919، وتأسيس اللبناني المتمصر يعقوب صروف صاحب مجلة «المقتطف» وجريدة «المقطم» حزباً سماه «الحزب الأميركي» سنة 1920، وهذا الحزب – كما يخبرنا جورج أديب كرم عنه – ضم إليه بعض الشوام كفارس نمر وشاهين مكاريوس وخليل مرشاق وإدوارد باشا إلياس ومشاقة باشا، ويخبرنا أيضاً عنه، أن هدفه كان الترويج لفكرة وضع لبنان وسوريا تحت الرعاية الأميركية.
التفاتة أميركا إلى مصر في عشرينات القرن الماضي وثلاثيناته اقتصرت على ميادين محددة كالتعليم والتربية والآثار، ولم تكن حكومية.
وفي أربعيناته تنامت الالتفاتة وتوسعت وشملت ميادين أخرى مع استمرار عنايتها أو تركيزها على الجانب التعليمي والتربوي، وأبرز حادث حصلت في هذا العقد بتأثير سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي تربوي هو تأسيس «جمعية الفلَّاح»، التي ترأسها أحمد حسين الذي كان وزيراً للشؤون الاجتماعية لفترة قصيرة في حكومة الوفد، وسفيراً لمصر في أميركا في حكومة الضباط الأحرار في السنوات الأولى. وكان من أعضائها حماه سيد شكري دحروج والد زوجته عزيزة التي هي رائدة في العمل الاجتماعي والتنموي، ومريت غالي، ومحمد فؤاد جلال، وإسماعيل القباني، ومحمد صلاح الدين، وعبد الرازق السنهوري، وأحمد حسن الباقوري... يقول سيد في اعترافاته في أثناء التحقيق معه عن هذه الجمعية، إن في مقدمة أهدافها تحقيق العدالة الاجتماعية للفلاحين والعمال وبرنامجاً ضخماً حول هذه الأهداف، وإن الصحافة الأميركية هللت للجمعية بصورة كشفت عن طبيعة العلاقة بين الجمعية والسياسة الأميركية في المنطقة، وإنه وضعت هالات كبيرة حول زعيمها الشاب وحول حرمه.
وكان الغرض من تلك الالتفاتة في ذلك العقد - على نحو رئيس - مقاومة المد الشيوعي والتأثر به في مصر، ومنافسة النفوذ البريطاني ومزاحمته.
أما في مطلع خمسينات ذلك القرن فلقد كانت أعظم ثمرة لتلك الالتفاتة الأميركية، نجاح الضباط الأحرار في الاستيلاء على السلطة.
جمعية الفلاح العلنية كانت تمثل الجناح المدني الموالي لأميركا، يقابلها تنظيم الضباط الأحرار السري الذي كان يمثل الجناح العسكري في هذه الموالاة. ونتيجة لتعاون هذه الجمعية مع تنظيم الضباط الأحرار في إرساء تنسيق وتفاهمات مع الحكومة الأميركية عُين في بداية حكم الضباط الأحرار عدد من أعضاء جمعية الفلاح في مناصب وزارية ومناصب حكومية مرموقة، لكن عند وقوع خلافات بين الحكومة الأميركية وبين حكومة عبد الناصر وعند اشتداد هذه الخلافات تم إعفاؤهم تدريجياً من مناصبهم.
ويمكن أن نعزو الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية التربوية التي وضعها رجال الثورة قيد التنفيذ إلى بعض أعضاء جمعية الفلاح المتأمركين وسواهم من المثقفين والمصلحين المصريين، وتلك الإصلاحات وُضعت قيد التنفيذ بمشورة ورعاية وموافقة أميركية.
سيد كان على صلة ببعض أعضاء جمعية الفلاح. وفيما يظهر لي أنها كانت حلقة وصل بينه وبين الضباط الأحرار. وهذه الجمعية هي التي نسّقت له بعثته الاستثنائية والغامضة إلى أميركا. وهذه البعثة - كما يقول الطاهر أحمد مكي: «جاءت فجأة وشخصية، فلم يعلن عنها ليتقدم لها من يرى نفسه كفئاً، وأن المبتعَث تجاوز السن التي تشترط إدارة البعثات توفرها بكثير، وأنه نُقل عند تخصيصها له مراقباً مساعداً بمكتب الوزير»، وأختلف مع ما قاله الطاهر أحمد مكي «أنها جاءت فجأة»، فلا بد أنها استغرقت وقتاً، لكن فيما يبدو أنه كان متكتماً عليها ولم يعرف بخبرها إلاّ حين سافر سيد إلى أميركا.
يسّر له تلك البعثة من الجانب المصري العالم التربوي إسماعيل القباني، المستشار الفني في وزارة المعارف، والمؤرخ محمد شفيق غربال وكيل وزارة المعارف، بدعم من حكومة النقراشي التي ذللّت، أو بالأحرى تجاوزت موانع إدارية وبيروقراطية تحول بينه وبين الذهاب في بعثة إلى أميركا. أما الجانب المالي في البعثة فلقرائن بعينها أميلُ إلى أن الاستخبارات الأميركية قد تكفلت بها كلياً أو جزئياً. وأسهم في تنسيق تلك البعثة المستشرق الشهير ولفرد كانتول سميث المتعاون مع الاستخبارات الأميركية، والمستشرق البريطاني هيوارث دن الذي نقل خدماته من الاستخبارات البريطانية إلى الاستخبارات الأميركية.
هيوارث دن كان على معرفة وثيقة بالحاج محمد حلمي المنياوي، صاحب دار الكتاب العربي، التي طبعت كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»، وعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين، وصاحب مجلة «الفكر الجديد»، التي ترأس سيد تحريرها في أواخر سنة 1947، وكان وقتذاك يعمل على إنجاز ذلك الكتاب.
لدعم سيد من الناحية المعنوية قرر المجلس الأميركي للجمعيات الثقافية ترجمة كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» إلى الإنجليزية، وأنيط هذا العمل الذي صدر سنة 1953 بجون. ب. هاردي. وكان هذا العمل باكورة إنتاج المجلس فيما سماه «برنامج ترجمة أعمال مفكري الشرق الأدنى». أرجّح أن هيوارث دن هو الذي كان وراء تلك الفكرة، لأنه كان مطلعاً على خبايا سيد، ومن بينها أنه كان ممروراً ممن كانوا يسمَّون شيوخ الأدب الذين لم يحظَ نتاجه في مرحلته الأدبية بكلمة تقدير منهم، وممروراً من الذين كانوا ينعون عليه عدم معرفته بلغة أجنبية. ففي النصف الأول من القرن الماضي استقر العرف الثقافي على أنه لكي تكون ناقداً أدبياً ذا توجه حديث، يجب عليك أن تكون - أولاً - قادراً على القراءة إما باللغة الفرنسية وإما باللغة الإنجليزية.
وهذا هو أحد أسباب قبوله تلك البعثة الغامضة والمشبوهة، لأنه كان ضمن برنامجها تعليمه اللغة الإنجليزية.