د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

مغالبة الحقائق على الأرض!

هناك مجموعة من «الحقائق» التي تعمل القيادات الإسرائيلية في اليمين واليسار على مغالبتها، على الأقل حتى اللحظة الراهنة التي تتجمع فيها مجموعة من الظروف المواتية لاستئناف عملية سلام فعالة وهادفة إلى عبور فجوات كبيرة في مواقف الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. هذه الحقائق هي: أولاً، أنه بين نهر الأردن والبحر المتوسط يوجد 12 مليوناً من البشر نصفهم من اليهود والنصف الآخر من العرب (هناك اعتقاد ذائع أن العرب تفوقوا على اليهود بنحو 250 ألف نسمة)؛ ولمّا كان النصف اليهودي متشبثاً بالبقاء على أرض فلسطين، فإن النصف العربي أثبت طوال السنوات والعقود الماضية أنه لن يتخلى عن أرضه هو الآخر، ليس فقط لأن القومية الفلسطينية نضجت كثيراً مع الأيام والسنين، وإنما لأنه لم تعد هناك أراضٍ أخرى يمكن الذهاب أو اللجوء إليها. وثانياً، أن عرب إسرائيل الفلسطينيين يشكلون قرابة 21 من سكان إسرائيل؛ وهؤلاء لم يغادروها في الماضي، وليس منتظراً أن يفعلوا ذلك في المستقبل. وثالثاً، أن هؤلاء العرب من مواطني الدولة العبرية لديهم الآن حزب «القائمة العربية» وله 13 مقعداً في الكنيسيت الإسرائيلي، وهو عدد لن ينقص من الآن فصاعداً، والمرجّح أنه سوف يتزايد، لأن الرقم الحالي لا يعبر عن نسبة العرب الصحيحة سكانياً وتصويتياً. ورابعاً، إنه رغم كل المواريث التاريخية من العداء والكراهية، فإن الأرض والسكان بين النهر والبحر يمثلون وحدة اقتصادية واحدة ذات عملة واحدة هي الشيكل؛ وهناك سوق مشتركة للعمل وأخرى للتجارة وثالثة للرعاية الصحية، وغيرها، وكلها تقوم على المزايا النسبية للطرفين، كما هو الحال في كل اقتصاد مشترك. فالثابت أن هناك 150 فلسطينياً يعبرون يومياً إلى الجانب الإسرائيلي للعمل؛ ومن الثابت أيضاً أن الفلسطينيين يلجأون إلى المستشفيات الإسرائيلية للعلاج؛ ومن الثابت كذلك أن الإسرائيليين يذهبون إلى الضفة الغربية من أجل علاج الأسنان وإصلاح السيارات.
بالطبع فإن هذه ليست كل الحقائق، وهناك حقائق أخرى نابعة من تاريخ صراع طويل، ومن حقيقة الجوار العدائي بين الطرفين، وقيام إسرائيل باحتلال الأرض الفلسطينية كاملة؛ وباختصار فإن «المستعمر الجار» يشكّل حقيقة ثقيلة وصعبة أكثر مما كان الاستعمار القادم من بعيد، وبحكم الجغرافيا السياسية فإنه لا بد أن يرحل في يوم من الأيام. اتفاق أوسلو عام 1994 اعترف بهذه الحقائق القديمة للعداء وحاول تجاوزها من خلال ما عُرف بحل الدولتين، الذي كان الترجمة المعاصرة لقرار التقسيم السابق عام 1947 والذي تحدث عن دولتين: عربية ويهودية وبينهما اتحاد جمركي. وبعد أكثر من عقدين من السنين، فإن الحقائق المشار إليها أعلاه باتت تلقي بظلالها على علاقات الطرفين، بحيث تتجه بشكل عام إلى التعميق من ناحية؛ والرفض العنيف من ناحية أخرى. هذه التقلصات تظهر بشكل أساسي بين المتطرفين على الجانبين، ولكنها أيضاً تظهر على جانب المعتدلين الذين إما أنهم يريدون تغيير الحقائق القائمة على الأرض مضافاً إليها الاعتماد الأمني المتبادل، وإما أنهم يتجاهلونها فتزداد عمقاً وتعقيداً.
تصريحات آفي جاباي رئيس حزب «العمل»، الأخيرة التي اتجه فيها إلى منافسة اليمين بقيادة بنيامين نتنياهو في رفض إزالة المستوطنات في حالة التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين، وإلى رفض التعاون مع حزب «القائمة العربية» لتكوين ائتلاف يسمح لحزب «العمل» ويسار الوسط في الوصول إلى السلطة؛ كلها تعني، أياً كان موقف جاباي، أن نتنياهو سوف يستمر في الحكم في المستقبل المنظور. هناك احتمال آخر أن يكون اقتراب جاباي من مواقف تحالف اليمين هو سبيل حزبه إلى تكوين جبهة مشتركة معه يمكنها من ناحية المساومة بشكل أفضل؛ ومن ناحية أخرى المحافظة على الوحدة الوطنية في أوقات صعبة. الغريب أن ذلك يحدث في وقت كان فيه رد فعل نتنياهو، وليبرمان أيضاً، من اتفاقية الوحدة الوطنية الفلسطينية مختلفاً عن مواقفهما في لحظات سابقة مماثلة، حيث كان الموقف عنيفاً وقائماً على أن السلطة الوطنية الفلسطينية أن تختار بين «السلام» مع إسرائيل، أو «الوحدة» مع حماس. هذه المرة هذا الطرح لم يطرح، وعلى العكس كانت إسرائيل على استعداد لتقديم بعض تسهيلات اللقاء بين حماس وفتح، وهناك الكثير من شواهد الترحيب بالجهود المصرية والعربية.
هذا المشهد الإسرائيلي على اضطرابه وارتباكه هو النتيجة الطبيعية للتطورات الجارية على الساحة الفلسطينية؛ فبقدر ما إن قيام الدولة الفلسطينية يتضمن ضرورة الاتفاق مع إسرائيل على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة، فإنه يتضمن أكثر ما يقيمه الفلسطينيون على الأرض من مكونات الدولة، مؤسسات واقتصاداً ومجتمعاً وعلاقات دولية وإقليمية، وتلك التي تحدث بالفعل على الأرض ما بين النهر والبحر، وبما فيها الدور الذي بات يلعبه العرب الإسرائيليون في بلورة مفاهيم جديدة للوطنية الفلسطينية من ناحية، والتعامل مع الواقع السياسي الإسرائيلي من ناحية أخرى. فرغم إعلان جاباي عن موقفه الرافض من التآلف مع القائمة العربية، فإن الطريقة التي أعلن بها رفضه تؤكد الثقل الذي بات يتمتع به العرب الإسرائيليون. باختصار فإن هذه التحركات السياسية تعبر عن تقلصات مواجهة حقائق قائمة.
الحالة الإسرائيلية سوف تعتمد اعتماداً كبيراً على ما يحدث في الحالة الفلسطينية التي كانت استراتيجيتها تقوم على مقاومة الاحتلال، سواء كان ذلك بالسياسة والدبلوماسية والانتفاضة إذا كان ذلك ضرورياً من ناحية فتح، أو كان بالعمل العسكري والعمليات الانتحارية كما فعلت حماس. ولكن الواقع الحالي يشير إلى استراتيجية أخرى تقوم على خلق الحقائق على الأرض كما فعلت إسرائيل طوال تاريخها؛ ومن هذه الحقائق المهمة أن الدولة لا تقوم إلا إذا احتكرت فيها السلطة الشرعية حق الاستخدام الشرعي للقوة وأدواتها من سلاح وسياسة ودبلوماسية. الثابت الآن أن الفلسطينيين قطعوا شوطاً كبيراً في بناء مؤسساتهم خلال فترة قيادة الرئيس محمود عباس والدكتور سلام فياض؛ وعندما تتم الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية، فإن ذلك سوف يعطي للفلسطينيين الكثير من سمات الدولة الحقيقية. ولكن الدولة الفلسطينية سوف تكون حقيقة واقعة أراد الإسرائيليون ذلك أم لم يريدوا عندما تنتهي تلك الازدواجية بين السياسة والسلاح وتصبح هناك سلطة واحدة شرعية تجمعهما. الظن ساعتها أن الارتباك الإسرائيلي سوف يشتدّ، وربما يكون الحوار الإسرائيلي الداخلي كبيراً، وساعتها سوف يصل الجميع إلى لحظة الحقيقة التي تقوم على «مجال» واسع مشترك، ودولتين لكل منهما السيادة على أرضها وفق ما جرى الاتفاق عليه من انسحاب إسرائيلي واعتراف متبادل، إلى آخر ما هو معروف من نتائج مفاوضات سابقة، وأخرى جديدة تغلق الملفات القديمة، وربما تفتح بعضاً منها جديداً يتعامل مع الحقائق على الأرض. الأمر كله سوف يحتاج إلى صبر كثير، ولكن مكونات المسيرة إن عاجلاً أو آجلاً تبدو واضحة حتى ولو كان هناك إنكار هنا أو هناك، هو أقرب إلى سبيل السياسة الداخلية منه إلى سبيل السياسة بين الفلسطينيين والإسرائيليين.