مينا العريبي
صحافية عراقية-بريطانية، رئيسة تحرير صحيفة «ذا ناشونال» مقرها أبوظبي. عملت سابقاً مساعدة لرئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط»، وقبلها كانت مديرة مكتب الصحيفة في واشنطن. اختارها «منتدى الاقتصاد العالمي» ضمن القيادات العالمية الشابة، وتكتب عمود رأي في مجلة «فورين بوليسي».
TT

الدولة العراقية... باقية

في يونيو (حزيران) 2014، عندما كان العراق يعاني من جروح خروج «داعش» إلى السطح، قررت مجلة «تايم» الأميركية اختيار خريطة العراق وهي تحترق غلافاً لعددها الصادر 14 يونيو. وكتبت عنواناً أثار حفيظة كثير من العراقيين؛ إذ كان «نهاية العراق». وبعد مرور 3 سنوات عصيبة من ذلك الوقت، تبقى الدولة العراقية واقفة. نعم، إنها متعبة وتعاني وفيها من المشاكل ما يجب استئصاله لمنع موتها مثل تفشي السلاح وخروجه من يد الدولة، ولكنها باقية.
ومع إجراء إقليم كردستان استفتاءه على الاستقلال، رغم الاحتجاجات العراقية والدولية، خرجت أصوات مثل بيتر غالبريث، الدبلوماسي الأميركي السابق الذي أصبح الآن من المستشارين الذين يعملون لدى حكومة إقليم كردستان، أيضاً تنادي بانتهاء العراق. إلا أن تلك الأصوات فشلت مجدداً في تحقيق غايتها بإنهاء الدولة العراقية.
إن الدولة العراقية في حاجة اليوم إلى دعم غير مسبوق لإفشال جهود إنهاء وجودها. وفي هذه اللحظة تخرج السعودية ودول عربية عدة عن صمتها وتبرهن على تمسكها بالعراق.
صور خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو يستقبل رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي هذا الأسبوع، حملت رسائل عدة للعراقيين والسعوديين على حد سواء، بالإضافة إلى رسائل للدول الإقليمية بأن التقارب العراقي – السعودي بات ركناً أساسيا بين أركان ضرورية لإعادة بناء العراق. فبعد معارك «داعش» الطاحنة وإجراء إقليم كردستان العراق استفتاء كان من الممكن أن يهدد وحدة البلاد، من المنتظر من الحكومة العراقية الخروج برؤية تحمي الدولة العراقية وتنهض بها. وزيارة العبادي للسعودية واستحداث «مجلس التنسيق السعودي – العراقي» يظهر رؤية منفتحة من العراق على محيطه العربي. كما أن حضور وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون الاجتماعات في الرياض ضمن دلائل تشير إلى عودة الاهتمام الأميركي بالملف العراقي، ووضع أهمية للعلاقات العراقية – العربية لبناء جسور تساعده على العبور نحو الاستقرار بعد سنوات من الاضطرابات.
تأسيس «مجلس التنسيق السعودي – العراقي» له أهداف عدة؛ فهو أولاً يجسد التعاون غير المسبوق بين العراق والسعودية، ويمكنه أن يفعّل أي اتفاقات ثنائية، ويحرص على إبقائها حية. ثانياً، إنه يثبت اللقاءات المجدولة بين المسؤولين السعوديين والعراقيين؛ كي لا تعود إلى قطيعة بين البلدين. وثالثاً، سيكون على هذا المجلس ابتكار فرص توثق العلاقات بين البلدين، بناءً على التجارة والتعاون، لا على العون وانتظار المساعدات فقط. وهنا، فإن أموراً مثل فتح معبر عرعر الحدودي بين السعودية والعراق، ووصول أول طائرة سعودية إلى العراق منذ أكثر من ربع قرن، تأتي لتدعم فعل المجلس. كما أن التنسيق الأمني والاستخباراتي فيه منفعة للبلدين.
ومن السعودية بدأ العبادي جولة عربية أخذته إلى عمان والقاهرة، التقى فيها العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وكانت كل هذه اللقاءات مثمرة بالنسبة للعراق؛ إذ جاء العبادي بدعم مهم من المملكة من المتوقع أن يتجسد بتوسيع التعاون العربي.
وبينما يوسع العبادي من علاقاته مع الدول العربية، يقوم زعيم التيار الصدري بالخطوة نفسها، وقد زار الأردن يوم الاثنين بعد ساعات من زيارة العبادي له. وقد يكون التحالف بين العبادي والصدر تحالفاً يكسر من قبضة الفئات المدعومة فقط من طهران على مفاصل الحكم الحيوية في العراق، وبخاصة أن جميع الفصائل العراقية في انتظار إجراء الانتخابات التشريعية المقبلة التي يمكن للدول العربية أن تبدي تأييدها لتحالف عراقي يؤمن بمشاركة السلطة بين جميع الأطياف العراقية.
لا شك أن هناك كثيرين في الأوساط الإيرانية السياسية والعسكرية منزعجة من هذه التطورات. ولم يستطع وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف السكوت مع اشتعال موقع «تويتر» هذا الأسبوع بصور مسؤولين عراقيين وسعوديين وأميركيين وهم يتناقشون ويبنون خططاً مستقبلية للعراق؛ إذ أطلق ظريف تغريدة غريبة يتساءل فيها «ما هي الدولة التي يعود لها مقاتلو (داعش)؟»، وكأنه يجهل أن مقاتلي «داعش» يأتون من عشرات الدول، من دول عربية إلى الصين والولايات المتحدة مروراً بألمانيا. ووصف ظريف السياسة الخارجية الأميركية بأنها «معيبة» على الرغم من أن العراقيين يشعرون بأن هناك إدارة أميركية مستعدة اليوم للتعاطي مع الملف العراقي بجدية واهتمام غابا منذ سنوات.
ومع توثيق العلاقات السياسية السعودية – العراقية، وتوسيع الانفتاح العراقي على محيطه العربي، نحتاج إلى مرحلة مقبلة مهمة، وهي بناء الثقة وبناء العلاقات الاستراتيجية؛ إذ من الطبيعي أن تكون العلاقات بين الرياض وبغداد استراتيجية، وأن تكون تلك العلاقة أساساً للثقل العربي المطلوب في المنطقة، ولا سيما أن المرحلة المقبلة تحتاج إلى بناء أرضية قوية للثقة بين الطرفين، وأن تنجح في اختبار الزمن وأي أزمات مقبلة.
كما أنه من الضروري أن يكون للمواطن العراقي ثقة بدولته، وهنا الحلقة الأساسية للنجاح. اليوم المواطن العراقي يرى تحركات حكومته الخارجية والنهوض بمشاريع مهمة، لكنه ما زال في حاجة إلى بناء ثقته بقدرة الحكومة على القيام بواجباتها – من توصيل الخدمات الأساسية إلى حماية المواطن. وعلينا التذكر أن الثقة مرتبطة بالتوقعات. والشارع العراقي في حاجة إلى رفع توقعاته من الحكومة لتكون قادرة على إعمار الدولة وتقوية أعمدتها لتحمل أزمات مقبلة – لا تسمح لأحد بأن يتساءل مجدداً عن «نهاية العراق». الدولة باقية ويجب أن تكون توقعاتنا بأنها باقية لتعمر، بدلاً من التهديد المستمر لها.