من المفردات التي تغيرت معانيها، أو اتخذت معاني جديدة كلمة «الإسفاف» فهذه اللفظة اتخذت معنى آخر يتعلق الآن بالكلام وليس بالعيون. تقول مثلا: إن في كلامك إسفافا. أو: ما هذا الإسفاف الذي تقوله. ولكن المعنى الأصلي للكلمة هو: شدة النظر وحِدَّتُهُ.
وهذا عمل جيد في تطوير اللغة وإثرائها.
وقد كانت العين أو العيون من أبرز مقاييس الجمال في الثقافة العربية وبخاصة في الشعر. وكانت العيون النجل والدعج من التعابير المسيطرة على جمال العيون. وتبارى الشعراء في وصف عيون النساء وقارنوها بعيون المها والغزلان. ونلاحظ هنا أن بعضا من أهل هذا الزمان ينتقدون الشعراء العرب القدامى في تشبيههم عيون النساء بعيون بعض الحيوانات، من دون مراعاة العامل الزمني في هذا الجانب. وكأنهم بذلك يطبقون معايير زمنهم الحديث هذا على الزمن الماضي. وهو أمر يثير السخرية، ويفتقد المصداقية.
***
يقولون في العين:
«عين عرفت فذرفت». وهو مثل يضرب عندما يعرف الإنسان حقيقة الأمر.
«العين عبرى والفؤاد في دد». وهو مثل يضرب في الرياء، فالعين قد تخالف ما في القلب. وهو مثل قول الشاعر:
حشايَ على جمرٍ ذكيٍّ من الـهـوى
وعينايَ في روضٍ من الحسنِ ترتعُ
ويقولون: «عين الهوى لا تَصدُق»
و«رب عين أنمُّ من لسان».
و«بعين ما أرينّك». وهو من كلام العرب المعروف سماعا من غير أن يدل لفظه عليه.
وكان العرب يقولون في حدة البصر:
«أبصر من عقاب». و«أبصر من نسر». و«أبصر من زرقاء اليمامة».
***
لكن المُقْلة بضم الميم: شَحْمة العين التي تجمع السوادَ والبياضَ، أو هي الحَدَقة؛ وإِنما سميت مُقْلة لأَنها تَرْمِي بالنظر. وليس بالضرورة أن تطلق لفظة المقلة على العين البشرية أو الحيوانية، فنستطيع أن نقول:
الجو أضيق ما لاقاه ساطعهـا
ومقلة الشمس فيه أحيرُ المقلِ
الدَّعَجُ في العَيْنُ أنْ تَكُونَ شَدِيدَةَ السَّوَادِ مَعَ سَعَةِ المُقْلَةِ، تقول عين دعجاء وعينان دعجاوان.
قال سعيد عقل:
ألعينيكِ تبدّى وخطرْ
ينشر الضوءَ على التل القمرْ
النَّجَلُ سَعَتُها تقول عين نجلاء وعينان نجلاوان، وأعين نجل.
والبَرَجُ في العين شِدَةُ سَوَادِهَا وَشِدَّةُ بَيَاضِهَا
وكانوا يقولون أيضا: ضربة نجلاء، بمعنى أنها محكمة وقاتلة.
***
الكَحَلُ في العين سَوَاد جُفُونِهَا مِنْ غَيْرِ كُحْل
قال المتنبي
ألم يرَ هذا الليلُ عينيك رؤيتي
فتظهرَ فيه رقة ونحولُ
وقال البوصيري:
لا تحسبوا كحلَ الجفونِ بزينة
إن المها لم تَكْتَحِل بالإثمد
والإثمد هو حجر يكتحل به.
أما الحَوَرُ فهو اتِّسَاعُ سَوَادِهَا
إن العيونَ التي في طرفها حور
قتلننا ثم لم يحيين قتلانا
الوطَفُ: كثرة شعر الحاجبين والعينين والأَشفار مع اسْترخاء وطول، تقول: رجل أَوْطَفُ بيِّن الوَطَف وامرأَة وطْفاء، إذا كانا كثيري شعرِ أَهداب العين.
وسحابَةٌ وَطْفاءُ: إذا كانت مُسترخية الجوانب لكثرة مائها.
والشُهْلَةُ في العين حُمْرَة في سَوَادِهَا.
***
إذا نَظَرَ الإِنْسَانُ إلى الشّيْءِ بِمَجَامِعِ عَيْنِهِ قِيلَ رَمَقَه
فإنْ نَظَرَ إليهِ مِنْ جَانِبِ أذُنِهِ قِيلَ لَحَظَهُ
فإنْ نَظَرَ إليهِ بِعَجَلَةٍ قِيلَ: لَمَحَهُ
فإنْ رَمَاهُ بِبَصَرِهِ مَعَ حِدَّةِ نَظرٍ قيلَ: حَدَجَهُ بطَرْفِهِ.
فإنْ نظَرَ إليهِ بِشِدَّةٍ وحِدَةٍ قيلَ: أَرْشَقَهُ وأَسَفَّ النَظَرَ اليهِ.
فإنْ نَظَرَ إليهِ نَظَرَ المُتَعَجِّبِ مِنْهِ والكَارِهِ لَهُ والمُبْغِضِ إيَّاهُ قِيلَ: شَفَنَهُ وَشَفَنَ إليهِ شُفُوناً وشَفْناً.
فإنْ أعارهُ لَحْظَ العَدَاوَةِ قيلَ نَظَرَ إليهِ شَزْراً.
فإن نَظَرَ إليهِ بِعَيْنِ المَحبَّةِ قيلَ: نَظَرَ إليهِ نَظْرَةَ ذِي عَلَقٍ.
فإنْ نَظَرَ إليهِ نَظَرَ المُسْتَثْبِتِ قيلَ: تَوَضَّحَهُ
فإنْ نَظَرَ إليهِ وَاضِعاً يَدَهُ عَلَى حَاجِبِهِ مُسْتَظِلاً بِهَا مِنَ الشَّمْسِ لِيَسْتَبِينَ المَنْظُورَ إليهِ قِيلَ: اسْتَكَفَّهُ واسْتَوْضَحَهُ واسْتَشْرَفَهُ.
فإنْ نَشَرَ الثَوْبَ وَرَفَعَهُ لِيَنْظُرَ إلى صَفَاقَتِهِ أو سَخَافَتِهِ أو يَرَى عَواراً، إنْ كَانَ بِهِ ، قِيلَ اسْتَشَفَّهُ.
فإنْ نَظَرَ إلى الشّيْءِ كاللَّمْحَةِ ثُمَّ خَفِيَ عَنْهُ قِيلَ: لاحَهُ لَوحَةً.
فإنْ نَظَرَ إلى جَمِيعِ مَا في المَكَانِ حَتّى يَعْرِفَهُ قِيلَ: نَفَضَهُ نَفْضاً.
فإنْ نَظَرَ في كِتَابٍ أوْ حِسَابِ لِيهذِّبَهُ أو لِيَستَكْشِفَ صِحَتَهُ وَسَقَمَهُ قِيلَ: تَصَفَّحَهُ.
فإنْ فَتَحَ جَمِيعَ عَيْنَيْهِ لِشِدَّةِ النّظًرِ قِيلَ: حَدَقَ.
فإنْ لأْلأَهُمَا قيلَ: بَرَّقَ عَيْنَيْهِ.
فإنِ انقلبَ حِمْلاق عَيْنَيْهِ قِيلَ: حَمْلَقَ.
فإنْ غَابَ سَوَادُ عَينَيْهِ مِنَ الفَزَعِ قِيلَ: بَرَّقَ بَصَرُهُ.
فإنْ بَالَغَ في فَتْحِها وَأحَدَّ النّظَرَ عندَ الخَوْفِ قِيلَ: حَدَّجِ.. وهي مفردة مازالت تستعمل في بعض البلاد العربية.
فإنْ فَتَحَ عَيْنيْهِ وَجَعَلَ لا يَطْرِفُ، قِيلَ شَخَصَ، وفي القُرْآنِ الكريم: {شَاخِصَة أَبْصَارُ الَذِينَ كَفَرُوا} فإنْ أَدَامَ النّظَرَ مع سُكُونٍ قيلَ: أسْجَدَ.
فإنْ نَظَرَ إلى أفُقِ الهِلالِ لِلَيْلَتِهِ لِيَرَاهُ قِيلَ: تَبَصَّرَهُ
فإنَّ أَتْبَعَ الشَّيءَ بَصَرَهُ قِيلَ: أَتأَرَهُ بَصَرَهُ.
ورشَقَهم بِنظْرة: رَماهم.
والإِرْشاقُ: إحدادُ النظر
وفي المقابل:
نجد أن الحَوَصُ ضِيقُ العَيْنَينِ
الخَوَصُ غُؤُورُهُمَا مَعَ الضِّيقِ
الشَتَرُ انْقِلاَبُ الْجَفْنِ
الكَمَشُ أنْ لا تَكَادَ تُبْصِرُ
الجَهَرُ أنْ لا يُبْصِرَ نَهَاراً
العَشَا أنْ لا يُبصِرَ لَيْلاً
ومنه الأعشى وهي أيضا كنية الشاعر الشهير ميمون بن قيس
الخَزَرُ أنْ يَنْظُرَ بِمُؤخَرِ عَيْنِهِ
ومنه أيضا الشزر
يقول أبوفراس الحمداني:
وإني لنزال بكل مخوفة
كثير إلى نزالها النظر الشزر
الغَضَنُ أنْ يَكْسِرَ عَيْنَهُ حَتَّى تَتَغَضَنَ جُفُونُهُ
القَبَلُ أنْ يَكُونَ كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلى أَنْفِهِ، وَهُوَ أهْوَنُ مِنَ الحَوَلِ.
الشُّطُورُ أنْ تَرَاهُ يَنْظُرُ إليْكَ وهُوَ يَنْظُرُ إلى غَيْرِكَ.
الشَّوَسُ أنْ يَنْظُرَ بإحْدَى عَيْنَيْهِ وُيمِيلَ وَجْهَهُ في شِقَ العَيْنِ الّتي يُرِيد انْ يَنْظُرَ بِهَا.
الخَفَشُ صِغَرً العَيْنَيْنِ وَضَعْفُ البَصَرِ، ومنه ىكنية اللغوي الكبير: الأخفش.
الدَّوَشُ ضِيقُ العَينِ وَفَسَاد البَصَرِ
الإطْرَاقُ اسْترْخَاءُ الجُفُونِ.
الجُحوظُ خُرُوجُ المُقْلَةِ وظُهُورُها مِنَ الحَجاجِ
ومنه سمي أبو عمرو الجاحظ.
ولكن أين العرب الآن من هذه الدقة التي كانت عليها لغتهم!؟ وإني لا أعتقد أن هناك لغة أخرى لديها هذه المفردة وهي البَخَقُ وهو أنْ يَذْهَبَ بَصَرُ الانسان وَعَيْنُه مُنْفَتِحَة فتحسبه يبصر.
الكَمَهُ أنْ يُولَدَ الإنْسَانُ أعْمَى.
البَخَصُ أنْ يَكُونَ فَوْقَ العَيْنَيْن أو تَحْتَهمَا لَحْم نَاتئٌ.
***
تقول العرب في عَوَارِضِ العَيْنِ:
حَسَرَتْ عَيْنُهُ إذا اعتَرَاهَا كَلال من طُولِ النَّظَرِ إلى الشَّيْءِ.
زرَّتْ عَيْنُهُ إذا توقَدتْ مِنْ خَوفٍ أو غَيْرِهِ.
سَدِرَتْ عَيْنُهُ إِذَا لَمْ تَكَدْ تُبْصِرُ.
اسْمَدَرَّتْ عَيْنُهُ إذا لاحَتْ لها سَمَادِيرُ (وهي ما يَتَرَاءَى لَهَا مِنْ أشْبَاهِ الذُّبَابِ وغَيرِهِ عِنْدَ خَلَل يَتَخَلَّلُها).
قَدِعَتْ عَيْنُهُ إذا ضعفت مِنَ الإكْبَابِ عَلَى النَّظَرِ، حَرِجَتْ عَيْنُهُ إذا حَارَتْ قَالَ ذو الرُّمَّة:
تَزْدادُ لِلْعَيْنِ ابْهَاجاً إذا سَفَرَتْ
وتَحْرَجُ العَيْنُ فيها حِينَ تَنْتَقِبُ
هَجَّتْ عيْنُهُ إذا غارَتْ، وَنَقْنَقَتْ إذَا زَادَ غُؤُورُهَا
ذَهِبَتْ عَيْنُه إذا رأتْ ذَهَباً كَثِيراً فَحَارَتْ فِيهِ
شَخَصَتْ عَيْنُهُ إذا لَمْ تَكَدْ تَطْرفُ مِنَ الحَيْرَةِ.
لكن الأغرب أنهم كانوا يقولون قمرت للعين اذا تحيرت واضطربت من شدة النظر للثلج. والصحراء العربية لم تكن تعرف الثلج!؟
***
وفي تَفْصِيلِ كَيْفِيَّةِ النَّظَرِ وهَيْئاتِهِ في اخْتِلاَفِ أحْوَالِهِ تأملوا في هذه المفردات المتناهية في الدقة:
إذا نَظَرَ الإِنْسَانُ إلى الشّيْءِ بِمَجَامِعِ عَيْنِهِ قِيلَ رَمَقَه.
فإنْ نَظَرَ إليهِ مِنْ جَانِبِ أذُنِهِ قِيلَ لَحَظَهُ
فإنْ نَظَرَ إليهِ بِعَجَلَةٍ قِيلَ: لَمَحَهُ.
ونحن الآن لا نميز بين الرمق واللمح واللحْظ.
فإنْ رَمَاهُ بِبَصَرِهِ مَعَ حِدَّةِ نَظرٍ قيلَ: حَدَجَهُ بطَرْفِهِ.
فإنْ نظَرَ إليهِ بِشِدَّةٍ وحِدَةٍ قيلَ: أَرْشَقَهُ وأَسَفَّ النَظَرَ اليهِ.
إذا تَهَيَّأَ الرّجلُ للبكاءِ قِيلَ: أَجْهَشَ
قال قيس:
فأجهشت للتوباد حين رأيته
وكبر للرحمان حين رآني.
فإنِ امْتَلأتْ عَيْنُهُ دمُوعاً قِيلَ: اغْرَوْرَقَتْ عَيْنُهُ وَتَرَقْرَقَتْ
قال المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق
وجوى يزيد وعبرة تترقرق
فإذا سَالَتْ قِيلَ: دَمَعَتْ أو هَمَعَتْ
فإذا حَاكَتْ دمُوعُهَا المَطَرَ قِيلَ: هَمَتْ
فإذا كَانَ لِبُكَائِهِ صَوْت قِيلَ: نَحَبَ وَنَشَجَ
فإذا صَاحَ مَعَ بُكَائِهِ قِيلَ: أَعْوَلَ.
***
إِنسانُ العين: المِثال الذي يرى في السَّواد وجمعه أَناسِيُّ.؛ قال ذو الرمة يصف إِبلاً غارت عيونها من التعب والسير:
إِذا اسْتَحْرَسَتْ آذانُها اسْتَأْنَسَتْ لها
أَناسِيُّ مَلْحودٌ لها في الحَواجِبِ
قال البَعيث:
بَعِيد النَّوَى جالَتْ بإنسانِ عَيْنه
عِفاءَةُ دَمْعٍ جالَ حتى تَحَدَّرا
يعني دَمْعاً كَثُرَ فسالَ.
والإنسان: الأنملة:
تمري بإنسانها إنسان مقلتها
إنسانة في سواد الليل عطبول
وقال:
أشارت لإنسان بإنسان كفها
لتقتل إنسانا بإنسان عينها
وبعد.. كيف يمكننا استعمال هذه المفردات الجميلة التي لا نملك لها مرادفات في لغتنا العصرية؟