يوسف الديني
باحث سعودي ومستشار فكري. درس العلوم السياسية والإسلاميات التطبيقية، وعمل بالصحافة منذ عام 1999، وكاتب رأي في «الشرق الأوسط» منذ 2005، له كتب وبحوث ناقدة لجذور الإرهاب والتطرف والحركات والمنظمات الإرهابية في المنطقة. كتب عشرات الأبحاث المحكمة لمراكز بحثية دولية، ونشرت في كتب عن الإسلام السياسي والحاكمية والتطرف ومعضلة الإرهاب، وساهم بشكل فعال في العديد من المؤتمرات حول العالم.
TT

دعه يمر أم يعمل؟... إيران النووية وتصريحات ترمب النارية

رغم كل ما بذله الرئيس الإيراني روحاني في تلميع صورة إيران الخارجية؛ فإن هذا التداخل الإقليمي المعقد لقضايا المنطقة التي تفككت جيوسياسياً على أنقاض الربيع العربي، وسمح ذلك بأن يطالها العبث الإيراني طولاً وعرضاً، بعد أن قامت إدارة أوباما بأكثر القرارات براغماتية على مبدأ «دعه يمر دعه يعمل»، ليتحول إلى «دعه يعبث» أيضاً، فبلغ السلوك الإيراني مداه في التدخل السافر في العراق وسوريا واليمن ولبنان وأفريقيا.
اليوم الإدارة الأميركية الجديدة تعمل بطريقة مغايرة، فهي رأت ابتداء أن الالتزام بالسلوك السياسي هو المعيار الوحيد لتقييم الالتزام بالاتفاق النووي، ولا يمكن الفصل بين أن تمر طهران إلى مربع الاعتدال دون أن تعمل بشكل مضن لإثبات ذلك، بما يضمن مصالح الأمن القومي الأميركي بالدرجة الأولى، ومن ضمنها حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة.
الكونغرس اليوم أمام اختبار بعد أن رمى الرئيس الأميركي ترمب الكرة في ملعبه بتصريحاته النارية، التي يبدو أن ردة الفعل الإيرانية لم تنظر إليها بجدية كبيرة بسبب إدراكها للصعوبات التشريعية وآلياتها في أميركا فيما يخص فرض العقوبات؛ فإعادة النظر في التعاملات مع القطاعات المالية وتوجيه ضربة اقتصادية كبيرة لإيران لا يبدوان محتملين مع التعنت والتململ الأوروبي قدر أنه محاولة لضبط السلوك الإيراني عبر التلويح بنقض الاتفاق برمته.
الأكيد أن نظام طهران يعي تلك الصعوبات، إضافة إلى كونه سيلعب على طرح كارت المظلومية السياسية، والاستعداء ضد إدارة ترمب، واستغلال الثغرات الكبيرة في الموقف الأوروبي القائم على الشره والانفتاح غير المسبوق باتجاه السوق الإيرانية.
كان خطاب الرئيس الأميركي ترمب ذكياً بتكثيف نقده للحرس الثوري الذراع الإيرانية للفوضى في المنطقة، وأحد أهم مفاعلات الإمداد الآيديولوجي والعقائدي والتدريبي لـ«حزب الله» في لبنان و«أنصار الله» في اليمن (الحوثيين)، وحتى الميليشيات العسكرية المتشددة في العراق، ومجموعات المعارضات للإسلام السياسي الشيعي في الخليج ودول العالم، وتفكيك بنية اقتصاد الحرس الثوري، وإيقاف الشركات التابعة له، رغم صعوبة تصور ذلك، سيلقي بظلاله على امتداد إيران في الخارج، وإعادة تنشيط حالة التململ في الداخل الإيراني، وتقوية الفئات المعتدلة في الشارع الإيراني والرافضين لسلوك الملالي، وإن كانوا يشكلون أقلية ليس لها ذلك التأثير، كما هو الحال في معارضات الخارج التي لا تزال لا تشكل قوة ضاغطة.
ويمكن القول إنه على رغم الأصداء اللامبالية تماماً لخطاب ترمب المهدد لإيران ولوضعية الاتفاق النووي؛ فإنه إيذان جديد بمرحلة انتقالية تعبر عن إعلان وفاة لسياسة أوباما القائمة على الفصل بين ملف الاتفاق النووي والسلوك الإيراني في المنطقة بدعم الميليشيات وتصدير السلاح والتدخل السيادي في سوريا ولبنان واليمن، لكن ذلك لن يؤتي ثماره قبل تصنيف «الحرس الثوري» كمنظمة إرهابية، في حين يصفه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بأنه «مصدر فخر لإيران».
الإدارة الإيرانية سبقت أي تهديد للحرس الثوري بإطلاق جملة من التصريحات لموضعته كمنظمة خلصت العالم من خطر «داعش»، في محاولة ذكية لتمرير الخطأ الكبير اليوم في النظر إلى الإرهاب الداعشي باعتباره صورة مكبرة للفوضى العنيفة، وإهمال الإرهاب السياسي المنظم الذي تمارسه الميليشيات الشيعية بإدارة الحرس الثوري، وهو جزء من إشكالية التعامل المزدوج مع ملف الإرهاب في العالم.
الإشكالية الحقيقية في إعادة ضبط ترمب لمبدأ «دعه يمر» على أساس عدم فصل السياسة عن المصالح الاقتصادية والسلوك على الأرض هي أنه متفائل، فالحرس الثوري لنظام طهران هو هويّة تعبر عن بنية النظام لا يمكن تصوره من دونه، كما هو الحال في كل الدول القائمة على نزعة الثورة وليس منطق الدولة، ومنها كوريا الشمالية التي ربما تكون نموذجاً ملهماً للسلوك الإيراني في الأيام القادمة متى ما انهار الاتفاق النووي بشكل ضعيف، ومن جانب الولايات المتحدة فقط دون الأوروبيين، وهو ما سينعكس سلباً على المنطقة، وسيعطي ذريعة للنظام الإيراني برفع مستوى التدخل، وإشعال الحروب، ومستوى حالة العسكرة لميليشياته كتعبير عن تأثيرات نقض الاتفاق عليه.
والحال أنه كما لم تكن دول الاعتدال في المنطقة، وعلى رأسها السعودية، تنظر إلى الاتفاق النووي على أنه هدية أوباما الثمينة لها، بسبب إدراكها بأن عمق الأزمة هو في السلوك الإيراني، فإن نقضه من قبل ترمب يجب ألا يعد إنجازاً تاريخياً، فما فعلته إدارة أوباما السابقة جاء في سياق رؤية سياسية نفعية تفكر في تحقيق مصالحها في المنطقة، مع ضمانة منع إيران من امتلاك السلاح النووي طيلة فترة الاتفاق المقدرة بـ15سنة وبرقابة دولية، عبر إعادة فتح أسواق إيران أمام الشركات العملاقة وما تمثله من إنعاش للاقتصاد الإيراني، وبالتالي الضغط على المحافظين والمتشددين، وهو أمر يتردد عادة في تبرير تغير الموقف الأميركي، في محاولة لتضخيم تأثيرات انتعاش الأسواق الإيرانية على خنق تيار الصقور، إلا أن المسكوت عنه هو أن الاتفاق النووي من جهة أخرى اعتراف بحجم إيران وتأثيرها في المنطقة، ورغبة أميركية حفزها تولي أوباما في التخفف من ضغط ملفات المنطقة، وتقليص حجم التدخل العسكري الأميركي إلى أقصى حدوده.
واليوم يريد ترمب نقض الاتفاق لكن بقدرة أقل على كسب تأييد أوروبي في حال تمرير القرار عبر الكونغرس، لكن تبقى الإشكالية ذاتها مع دول الخليج وحلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، فالمسألة لا تخص قضية الاتفاق النووي.
جوهر الأزمة هو أن اشتراطات الولايات المتحدة أقل بكثير من متطلبات حلفائها في المنطقة بضبط السلوك الإيراني بحزم، وعلى رأسها إيقاف العبث والتدخلات المعادية في دول تتمتع بسيادة كاملة، كما أن جزءاً من أزمة الدبلوماسية الأميركية والصحافة الأميركية هو التركيز على استدعاء التحالف مع المعتدلين في إيران، وهو حديث يهمل جزءاً مهماً من القصة نفسها المتمثل في أن طموحات معظم المعتدلين، لو صحت التسمية، لا يمكن لها أن تؤثر على قرار الحرس الثوري بفيالقه التي تشكل سلطة مستقلة وهويّة ثورية راسخة على مستوى الداخل والخارج.
يتطلع الأميركيون إلى الحد الأدنى السياسي، وهو القدرة على اختراق جدار الصمت السياسي بينهم وبين إيران، لكن هذا الحد الأدنى لا يكفي اللاعبين الأساسيين في المنطقة: دول الخليج والاعتدال العربي التي تملك هواجس أمنية تتصل بالتدخل الإيراني في المنطقة، وتركيا التي لا تريد أن تواجه منافساً إقليمياً معيقاً لمشروعها، في حين أن كرة الثلج بينها وبين الولايات المتحد تتضخم، في ظل عودة روسيا للمنطقة بقوة أكبر وبقدرة على بناء تحالفات وإحداث تغيير في الملفات عبر الضغوطات الجادة على حلفائها، وهو ما يعني أن القضية اليوم أكبر من «تصريحات نارية».