د. آمال موسى
أستاذة جامعية مختصة في علم الاجتماع، وشاعرة في رصيدها سبع مجموعات شعرية، ومتحصلة على جوائز مرموقة عدة. كما أن لها إصدارات في البحث الاجتماعي حول سوسيولوجيا الدين والتدين وظاهرة الإسلام السياسي. وهي حالياً تشغل منصب وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن في الحكومة التونسية.
TT

الاستفتاء: هل يناسب مجتمعاتنا العربية؟

كثر الحديث في أكثر من بلد من بلدان العالم خلال الأشهر الأخيرة، عن الاستفتاء الشعبي الذي يعني في التعريف الاصطلاحي الرجوع إلى الشعب بصفته صاحب السيادة لأخذ رأيه بالموافقة أو الرفض في موضوع عام، سواء كان موضوعاً قانونياً أو دستورياً أو سياسياً.
وكما نرى فهو آلية مهمة جداً من آليات الديمقراطية، يحق للسلطة التنفيذية أو التشريعية أو الشعب اللجوء إليها في موضوع عام يهم الشعب ويكتسي طابعاً مصيرياً. ولقد سعت دساتير عدّة إلى ضمانه دستورياً، وحدّدت شروط استخدامه في صورة ما إذا كان الطرف المطالب بالاستفتاء هو الشعب: فمثلاً دستور سويسرا المنقح عام 2000 يشترط مطالبة 100 ألف مواطن كحد أدنى للقيام باستفتاء، وفي إيطاليا يصل العدد إلى 500 ألف.
وغالبية الدساتير اكتفت بمنح حق المبادرة في اللجوء إلى الاستفتاء إلى السلطة التنفيذية (وفي بعض دولنا إلى الرئيس تحديداً) والسلطة التشريعية في دساتير بعينها.
إذن نظرياً ومبدئياً، إن الاستفتاء بوصفه إحدى أهم آليات الممارسة السياسية الديمقراطية، إنما يعد الآلية التي يمارس عن طريقها الشعب سيادته بنفسه. بمعنى آخر يمكن القول إن الاستفتاء نظرياً آلية لا غبار عليها ديمقراطياً.
غير أن السؤال الذي يهمنا نحن كمجتمعات عربية وإسلامية لا تزال في منتصف طرق التحديث والمواطنة: إلى أي مدى يمكن أن تكون آلية الاستفتاء علاجاً لمشكلات عدة؟ وهل الاستفتاء والحال على ما نحن عليه يمثل باباً للانقسامات والتشتت ولمزيد تجزئة الأجزاء المتجزئة من الفضاء العربي الإسلامي؟
إننا نتحدث عن التجزئة والانقسامات؛ لأن أغلب مطالب الاستفتاء إنما تهدف إلى الرغبة في الاستقلال سيادياً، ولنا في العراق مثال واضح. بل إنه لو فتح باب الاستفتاءات لرأينا في كل البلاد العربية مجموعات من الأقليات وغيرها تطالب بالاستقلال عن الدولة التي تنتمي إليها، لتكون دويلة مستقلة. الأمازيغ سيطالبون بالاستقلال في المغرب العربي، وسيمضي شعب الصحراء في المغرب في حلم الاستقلال وتقرير المصير.
وإذا فُتح باب الاستفتاءات، فلا أحد يستطيع وضع شروط على الموضوعات القابلة للاستفتاء، والأخرى الممنوعة من الاستفتاء.
في الحقيقة يبدو أن هذه الآلية - أي الاستفتاء - العالية الديمقراطية تناسب المجتمعات التي قطعت أشواطاً طويلة في مسار المواطنة، وتكونت فيها علاقات تواصلية عقلانية مدنية بين المواطنين أنفسهم، والمواطنين والدولة أيضاً. وهي جد خطيرة على مجتمعاتنا العربية التي لا تزال تجربتها في الديمقراطية في الطور الجنيني.
إن توصيفنا لهذه المسألة بالخطورة؛ لأن الاستفتاء في السياق العربي الإسلامي يتخذ طابعاً احتجاجياً وانفعالياً يفتقد إلى النضج والتروي، وهو بمثابة التعبير عن أزمة. كما أن اللجوء إلى الاستفتاء يناسب منهجياً الدول ذات التجارب الديمقراطية العريقة؛ لأنها تجاوزت مرحلة إرساء قيم المواطنة وبناء دولة تحمل هوية مدنية. وإذ نكرر باستمرار مسألة المواطنة، فلأنها بكل بساطة قلب الديمقراطية. لذلك فنحن لا نستطيع التحدث عن الديمقراطية في بلداننا إلا كتجارب في خطواتها الأولى، وكذلك بالنسبة إلى مسألة المواطنة.
الفكرة الرئيسية التي تبدو لي مهمة في هذا السياق الإشكالي الذي تظهر فيه مجتمعاتنا حديثة العهد بالديمقراطية والمواطنة، ومن ثم فإن الاستفتاء كآلية تشترط النضج الديمقراطي لا تناسب مصلحتنا الراهنة على الأقل. الفكرة المهمة تتمثل في أن تفادي مطالب الاستفتاء وضغط بعض المجموعات من هواة الديمقراطية الشكلانية يُلزم دولنا العربية والإسلامية بالتعامل مع مسألة المواطنة بشكل جدي للغاية، باعتبار أن المواطنة الحقيقية التي تعزز انتماء جميع المواطنين إلى الدولة، والتي تقطع مع أشكال التمايزات كافة، وحدها تمتص الاحتقان وتقضي على تمايز الأكثرية الدينية أو العرقية على الأقليات. فالمواطنة هي مشروعنا الجوهري، وهو الحل لكثير من مشكلاتنا المجانية الخطيرة الدموية.
عندما نتجاوز أسباب الاحتقان والانفعالات، وبعد أن تتعتق تجاربنا في الديمقراطية، ونستوفي شروط التعايش المدني، ساعتها يمكن أن يكون الاستفتاء حلاً عقلانياً لبعض المشكلات، ويكون مطلباً مطبوخاً عبر التاريخ، ولا تشوبه التعبيرات الاحتجاجية.
وفي مقابل ذلك، فإن دور السلطتين التنفيذية والتشريعية أكثر من وظيفي واستراتيجي في اللحظة العربية الإسلامية الراهنة؛ حيث نحتاج إلى نخب سياسيّة حاكمة قوية وجريئة وشجاعة، في الإقبال على استحقاقات المواطنة وتعزيز مظاهر المدنية داخل الدولة. لا بد من عمليات جراحية سياسية ثقافية مؤلمة، كي لا نجد خريطة عربية مجزأة إلى فتات من الدويلات. وحتى بالنسبة إلى القوانين الحساسة التي قد تصدم البعض، يجب أن تكون نخبنا شجاعة في إقرارها والدفاع عنها، وإلا فإننا سنظل في النقطة نفسها واللحظة ذاتها.
قبل أكثر من ستة عقود، أصدر بورقيبة مجلة «الأحوال الشخصية» مانعاً فيها تعدد الزوجات، ولقد طالبت فيما بعد بسنوات قليلة المعارضة الإسلامية في تونس بإجراء استفتاء شعبي، معتبرة أن المجلة فرضها بورقيبة بالقوة وضد قناعات الشعب التونسي.
في الحقيقة، لو قام بورقيبة باستفتاء لكان الرفض الجواب الأكيد، ولكنه كان قراراً جريئاً في ذلك الوقت.
إن قطع الطريق على الأصوات المطالبة بالاستفتاء من حين إلى آخر، أو تلك الأصوات التي لم يصدر صوتها بعد، لا يكون إلا بتعزيز المساواة بين جميع المواطنين وتجاوز ثقافة التمييز.