سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

بلفور كتب رسالته ورحل

اللورد بلفور لم يكن ليتوقع ذلك، ولا حتى الحركة الصهيونية التي أعطاها وعده الخبيث وكأنه يتبرع بأرضه. المعطيات يومها كانت تبشّر الراسمين لخطط التقسيم (سايكس - بيكو) 1916 ومن ثم إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين عام 1920، بأن شعوب المنطقة ستتأقلم مع الصدمة، والفلسطينيين الذين لا يتجاوز عددهم 700 ألف سيذوبون بين العرب، وتبتلعهم الهوية القومية إلى غير رجعة. أوروبا الواقعة تحت عبء النازية وتهمة العداء للسامية، وعار غرف الغاز، تبحث عن تبييض سجلها مع من اضطهدتهم، وترى بعين الراحة التخلص منهم.
بعد مائة سنة من تلك الرسالة المشؤومة التي وجهها وزير خارجية بريطانيا اللورد آرثر بلفور، في 2 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، إلى البارون اليهودي البريطاني، روتشيلد، أحد أهم رعاة الهجرة إلى فلسطين يقول له فيها إن بريطانيا «تنظر بعين العطف إلى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية»، لا يزال سؤال مشروعية إسرائيل مطروحاً، ليس بين العرب وإنما في الغرب وبريطانيا كذلك.
المفاجأة ليست فقط في أن الفلسطينيين لا يزالون يورثون مفاتيح بيوتهم في أرضهم التي طردوا منها إلى أولادهم، بل في التحولات التي تشهدها أقسام «الاستشراق» و«دراسات الشرق الأوسط»، في الجامعات الغربية من داعم شرس لإسرائيل إلى باحث عن وثائق مجهولة وسير لمقاتلين عرب، وشخصيات مفاتيح، في تلك الفترة الاستعمارية. العمل حثيث لجمع حكايات عربية شفهية عن ألسن السكان ونبش صورة فوتوغرافية مجهولة، لإعادة كتابة الرواية الفلسطينية، وتركيب «البازل» من جديد. الجامعات الأميركية التي تصوت لمقاطعة إسرائيل أكاديمياً يزداد عددها، من «دي بول» الكاثوليكية إلى «نورث ويسترن» و«كاليفورنيا»، وكذلك في إيطاليا مثل «برشلونة» و«تولينو» وشركات بينها هولندية وفرنسية، إضافة إلى جامعة «سواس» البريطانية وأخرى غيرها، تأتي المعارضة لبلفور في قبره من «الاتحاد الوطني البريطاني للطلبة» الذي يضم 7 ملايين عضو، صوت مجلسه بغالبيته لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها. وتأتي المعارضة من «منظمة العمال الآيرلندية»، و«نقابة المعلمين» هناك التي تطبق حظراً على الجامعات الإسرائيلية.
الصوت العربي بوجود المهاجرين، ووصولهم إلى مراكز الأبحاث والتعليم في الجامعات الغربية، جعل تغييب الرواية العربية مستحيلاً.
رغم أن تيريزا ماي، رئيسة وزراء بريطانيا، لا تزال حليفة قوية للوعد المقطوع من مواطنها، و«تفخر» بهذه الذكرى المئوية معتبرة إسرائيل «ديمقراطية مزدهرة، ومنارة للاعتدال، ومحرّك مشروعات، ومثالاً يحتذي به باقي العالم». تبقى المواقف الرسمية، أبعد من أن تعكس التغيرات الشعبية التي تأخذها إسرائيل بجدية تامة، وتكافحها بالتنسيق مع الحكومات للضغط، أو من خلال المحاكم والنصوص القانونية. هكذا فعلت عندما اقترح أستاذ الفلسفة في جامعة برايتون توم هيكي نصاً للتصويت عليه بمقاطعة إسرائيل، وصوتت غالبية في كبرى نقابات التعليم العالي في بريطانيا على دعم النداءات لمقاطعة الجامعات الإسرائيلية احتجاجاً على حرمان الفلسطينيين من حقهم في التعليم، رافضة إرسال طلاب بريطانيين لتلقي تعليمهم في إسرائيل.
ومع ذلك ترفض بريطانيا رسمياً الاعتذار عن الخطأ التاريخي الذي ارتكبته، وإن كانت قامت به بالتواطؤ والتنسيق مع حلفائها الكبار الذين قادوا وانتصروا في الحرب العالمية الأولى، والذنب أخلاقياً لا تتحمله وحدها. ويصر الفلسطينيون على جمع تواقيع بريطانيين لدعم حملتهم ليصلوا إلى أكثر من عشرة آلاف توقيع، في سابقة تاريخية، والمحاولة لا تزال في أولها، بينما تستعد إسرائيل لاحتفالات كبرى بهذه الذكرى، دعت إليها الأسرة المالكة في بريطانيا، التي لم يسبق لأي فرد منها أن قام بزيارة رسمية لإسرائيل.
يحصي العرب في هذا التاريخ الأليم خسارتهم، ويراجعون تاريخهم ويعدّون الخدع التي تعرضوا لها، من التقسيم إلى دويلات بدل الدولة العربية الكبرى الموعودة، ومن ثم تسليم فلسطين لجماعات جلبت جلباً، بدل تحريرها لصالح سكانها وأصحابها وما استتبع هذه المأساة من نكبة عام 48 التي كانت نقطة تحول مفصلي في المنطقة بأسرها.
يستطيع كل أن يرى الخريطة من الزاوية التي تعنيه. بعد النكبة اهتزت كيانات سياسية وقامت انقلابات في محاولة لإرساء أنظمة تواجه التحدي الكبير، انتهت إلى ديكتاتوريات راسخة. نهضت الحركات اليسارية كرد فعل على الاستعمار الإمبريالي الذي اغتصب البلاد وشرد العباد، ووسم كل من يسير مع الحلف الغربي بالرجعية والتخلف، مقابل تقدمية لم تتقدم إلا باتجاه حتفها. وهناك من يرى في الشعر الحديث وتيارات الأدب التي دعت إلى كسر الوزن والتحرر من القوافي مداً طبيعياً للفكر السياسي يومها بكل جموحه واندفاعاته الحماسية. ومنهم من يستشهد بجرأة فدوى طوقان، ويقارن بين ما كتبته قبل 48 وبعدها ثم ما سطرته بعد 67 ليثبت أن الأدب الذي ولد من رحم الاحتلال كان انقلابياً شكلاً ومعنى، وأن كل حرب تستجد وأرض تسلب، كانت ترسم ملامح ما بعدها.
في «المكتبة البريطانية» في قلب لندن، تحدث يهود وعرب عن وعد بلفور طوال يوم السبت. وغرد «تويتريون» يذكّرون بالمأساة التي عصفت بحياة الملايين، واحتفى آخرون بإنجاز لن يتخلوا عنه، ولا يزال الطوفان مستمراً. الصراع هدّار، والانقسامات تتصاعد حدتها، لتصل إلى صلب المجتمعات الغربية، بعد أن صار الإرهاب من يوميات أوروبا، والإسلام شاغل العصر. كتب بلفور رسالته ورحل غير مدرك، ما سيستجره من بعده. حقاً لقد سطر الرجل ببضع كلمات أنيقة ولبقة «أهم الرسائل في التاريخ» وأكثرها دموية.