خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من اقتصاديات السوق

يكثر الكلام في هذه الأيام عن اقتصاديات السوق والمنافسة الحرة والعولمة. الواقع أن هذه القيم انطبقت بأنصع صورها على عالم المحاماة في الخمسينات في العراق. غصت غرفة المحامين بالمحامين بعد تخرج الدفعة الأخيرة في كلية الحقوق، نحو ثلاثمائة محام. دأبوا على التجمع في غرفة المحامين يقرأون الجرائد ببلاش ويشربون الشاي والقهوة وينغمسون في ذلك الموضوع، ألا وهو شتم الحكومة. كان الهم الرئيسي هو التنافس على الدعاوى القليلة التي يكلفهم الناس إياها.
غير أنهم سرعان ما لاحظوا أن زميلهم المحامي اليهودي إسحاق لاوي كان دائما في شغل شاغل. يحيط به الزبائن حيثما جلس أو وقف. يبحث معهم، يستمع إليهم، يدون الملاحظات ثم يحرر اللوائح والعرائض. يصعد وينزل، يخرج ويرجع، والناس من حوله. حاروا في أمره وتساءلوا ما سر هذه العبقرية. وما الذي يتفوق به عليهم في معرفة القانون. انتظروا قليلا ثم اكتشفوا أن زميلهم إسحاق لاوي كان يحرر اللوائح والعرائض بأسعار لا تزيد كثيرا عما يتقاضاه العرضحلجية في قارعة الطريق. كان هذا سر ازدهار أعماله وإقبال الزبائن على خدماته من دونهم جميعا. اعترضوا على ذلك واحتجوا عليه. قالوا له اسمع أستاذ إسحاق، من دون زعل، هذا عمل لا يليق بقدر المحاماة. أنت تحط من منزلة القانون في المجتمع.
أجابهم قائلا: يا إخوان كل واحد يمشي بعقله. أنتم تقعدون النهار كله تنتظرون دعاوى كبيرة بالمئات والألوف. أنا أشتغل بدينار عريضة لحاكم التحقيق، بدينارين لائحة لمحكمة الاستئناف. ينتهي النهار. أرجع للبيت وبجيبي ستة أو سبعة دنانير وأنتم قاعدون هنا في غرفة المحامين تنتظرون الفرج، تنتظرون دعاوى كبيرة، دعاوى قتل ومنازعات بالألوف.
لم يرق هذا الكلام لزملائه فشكوه إلى نقابة المحامين: «إن إسحاق لاوي هذا يهين المهنة وينزل قدر المحامين بأسعاره الرخيصة عن قضايا تافهة». فأجابهم رئيس النقابة: عليكم أن تعرفوا وتحترموا حقوق المواطنين. كل إنسان حر في بيع خدماته. إذا كان الأستاذ إسحاق يعيش على عرائض يكتبها بدينار فما عليكم غير أن تحرروا عرائض بنصف دينار حتى تخربوا بيته.
يظهر أثناء ذلك محام شاب، الأستاذ لعيبي جاسم، وصل توا من أرياف مدينة العمارة وانضم إلى المحامين في العاصمة العراقية وسمع بنصيحة رئيسهم وراح يطبقها. سرعان ما رأوا المحامي اليهودي إسحق لاوي يدخل الغرفة وهو يزبد ويعربد: «يا جماعة إيش ها الشغل هذا؟ سمعتم يا إخوان! ما بقت أي كرامة لمهنة المحاماة. هذا العمارتلي المعيدي لعيبي جاسم تخرج في كلية الحقوق وصار محاميا وجاء هنا لغرفة المحامين يكتب عرائض للناس بنص دينار. ما بقي قدر للمحامين بهذا البلد! نبطل أحسن من شغلة المحاماة ونشوف لنفسنا شغلة ثانية!».
ضجت غرفة المحامين بالضحك وهم يشيرون عليه بالشكوى لنقيب المحامين.
وكانت أيام خير وفاتت.