إميل أمين
كاتب مصري
TT

أميركا والإسلام... جذور وجسور

يستدعي المؤتمر الذي دعت إليه رابطة العالم الإسلامي في نيويورك للتواصل الحضاري بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي، وقفة لتعميق البحث في مسألة علاقة الإسلام كدين والمسلمين كمؤمنين وكمواطنين داخل بلاد العم سام.
أحد أهم الأسئلة التي تحدد مسار العلاقة بين أميركا والإسلام وهل هي ماضية في طريق الاتفاق أم الافتراق، هو ذاك الخاص بالحضور الإسلامي في أميركا... متى بدأ وكيف نشأ وهل هو حديث العهد أم متجذر؟
أفضل من بحثت مؤخراً في هذا السياق التاريخي الأكاديمية الأميركية دينيس سبلبيرغ أستاذة التاريخ والدراسات الشرق أوسطية في جامعة تكساس والتي أصدرت قبل عامين كتابها الشائق «الإسلام والآباء المؤسسون».
المثير في سطور الكتاب هو الكشف عن وجود المسلمين في الداخل الأميركي منذ طور التكوين، في عام 1776 وجلهم استجلبوا من مناطق أفريقية كان الإسلام قد ازدهر فيها من قبل، والأكثر مدعاة للمقارنة بين أحوال أميركا في زمن جورج واشنطن الرئيس الأول والمؤسس، وبين حاضرات أيامنا، هو إعلان واشنطن ترحيبه بالمسلمين، وقد أشار إلى أنهم سيكونون مرحباً بهم سيما إذا كانوا عمالاً جيدين، كما أن المسؤولين في ولاية ماساتشوستس أيضاً أجبروا على أن يمنح دستور 1780 «الحرية أكثر للوثنيين والمسلمين واليهود والمسيحيين»، وهي النقطة عينها التي أكدها ثوفيلوس بارسونز رئيس المحكمة العليا في البلاد عام 1810.
منذ ذلك الوقت إلى الساعة التي انطلق فيها مؤتمر نيويورك جرت في النهر مياه كثيرة، ولعب البعض أدواراً مثلت فخاخاً للجانبين، كان في مقدمهم برنارد لويس بطريرك الاستشراق الذي عمد إلى إشاعة رؤية آيديولوجية مفادها أن الإسلام بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) تحديداً قد ملأ الفراغ الذي خلفه سقوط الاتحاد السوفياتي، بل حاول أن يعمق الشرخ داخل المجتمعات العربية والإسلامية ذاتها، عبر رؤى منحولة وتنبؤات تمنى الرجل أن تحقق ذاتها بذاتها من نوعية القول بأن شباب «القاعدة» استهدفوا أميركا كونها «العدو الأول لهم».
لعب لويس وأنصار اليمين العنصري الأميركي، والكثير منهم يتخذ لنفسه مسحة دينية، على مشهد العداء للإسلام في الداخل الأميركي بوصفه أداة تعيد تعريف الأميركيين بهويتهم في سياق ديني ثقافي مثلما أدت الحرب الباردة إلى دعم تعريفات سياسية وعقائدية للهوية.
عطفاً على ما تقدم جاء صموئيل هنتنغتون ليعزز الأزمة حينما قسم العالم تقسيما ثقافوياً لا يخلو من مسحة دوغمائية ما بين معسكرين؛ يهودي مسيحي غربي، وإسلامي كونفوشيوسي شرقي، ما رسخ أزمة الهوية لدى الأميركيين وبشكل خاص تجاه مواطنيهم من المسلمين.
لكن الحياة الثقافية والفكرية الأميركية كذلك لم تعدم من منصفين، من أمثال البروفسور الأميركي الكاثوليكي جون اسبوسيتو الذي أقر طويلاً وكثيراً في كتبه ومؤلفاته بأن الغرب أساء فهم حركة الإحياء والتجديد الإسلامي لا سيما في تفسيره لسياقات «الإسلام السياسي»؛ إذ أنكر التبسيط المخل للمعنى والمبنى لتلك الحركة، وذهب إلى القول إنها مثل اللجوء إلى أي ديانة أو آيديولوجيا، يمكن أن تكون قوة إيجابية فعالة للتغيير، ويمكن أيضا أن تكون تهديداً خطيراً للمجتمعات المسلمة وللغرب.
أصاب اسبوسيتو فالأيديولوجيات العلمانية كالديمقراطية والاشتراكية وأيضا الشيوعية وحتى القومية العربية، برهنت بدرجة مماثلة على أنها عرضة للاستغلال والاستخدام الذكي من جانب الديماجوجيين، فالأفكار النبيلة مثل نشر إرادة الله، ونشر الديمقراطية يمكن تشويشها واستغلالها لإضفاء الشرعية على الإمبريالية والقهر والظلم باسم الله أو باسم الدولة.
أحسنت كثيرا رابطة العالم الإسلامي في دعوتها لهذا المؤتمر وفي هذا التوقيت الذي لا يخلو من ذكاءات عدة، فهو من جهة يأتي خلال الشهر السيئ سمعة «أيلول»، ومن جهة ثانية يواكب أعمال الدورة الثانية والسبعين للجمعية العمومية للأمم المتحدة حيث دول العالم قاطبة قائمة هناك، ولا بد من رجع صدى للمؤتمر، وثالثا أن المؤتمر يأتي والجدل محتدم حول مستقبل مسلمي أميركا في الداخل والموقف من القادمين من الخارج بعد توجهات الرئيس ترمب الأخيرة، ناهيك عن اللغط الذي ملأ الأجواء الثقافية ويملأها مجددا بعد العمليات الإرهابية التي وقعت هناك وفي أوروبا ونسبت للإسلام والمسلمين بالتعميم وليس التخصيص.
السؤال الجوهري... هل ما دار من نقاشات وما ألقي من كلمات خلال فعاليات المؤتمر قد وصل إلى أسماع الأميركيين من العوام والنخبة، من الديمقراطيين والجمهوريين، من اليمين واليسار، من أتباع كافة الملل والنحل... وهل كان المؤتمر نوعا من الديالوج مع الآخر أم هو منولوج مع الذات؟
مهما يكن من أمر فإن مسلمي أميركا بنوع خاص تبقى هويتهم واضحة... جذور في الأراضي الأميركية، وجسور ثقافية وفكرية مع العالم العربي والإسلامي في الخارج وفي كل الأحوال حصن حصين أمام هوس التعصب والتطرف من الجانبين.