خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

بين القول والفعل

أخذ الموظفون العرب في القسم العربي من هيئة البي بي سي يشعرون باستياء من اعتماد تلك المؤسسة على مراسلين إسرائيليين وأجانب في تغطية شؤون العالم العربي في الخمسينات والستينات وعدم الاعتماد على الموظفين العرب. تفاقمت هذه المشاعر بعد حرب يونيو (حزيران)، فاجتمعنا ذات يوم وقررنا تقديم احتجاج لمدير الإذاعة نستنكر –ضمن أشياء أخرى– عدم ترقية الموظفين العرب للمناصب الإدارية ورئاسة الأقسام، وحجرهم ضمن أعمال الترجمة والقراءة والطباعة.
قمنا بتحرير المذكرة ووقعناها ثم تساءلنا من منا يحملها ويقدمها بنفسه إلى سعادة المدير. لم يتقدم أي أحد، فانطلق المرحوم محمد قماطي، وذكرنا بحكاية الفئران التي اتفقت على تعليق جرس على رقبة القط. ثم اختلفت وتعاركت على من يقوم بتعليق الجرس. قال: أيها الإخوان من منكم يجرؤ على تقديم المذكرة؟ أو بعبارة أخرى من يعلق الجرس؟
ضحكنا وانصرفنا إلى بيوتنا لنثبت أن الضحك مفتاح الفرج. بيد أن فأراً من بيننا تطوع وقدم لا المذكرة المعنية وإنما تقريراً عن كل ما جرى في الاجتماع. جاء دور الرؤساء الإنجليز ليضحكوا. بيد أنهم أخذوا الموضوع موضع الجد.
لم تمض غير أشهر قليلة حتى بدأوا فعلاً بإحلال العرب محل الرؤساء الإنجليز كلما أحيل أحدهم للمعاش. كنت قد تركت الإذاعة عندئذ ومشيت درباً آخر. ولكن الصحبة والرفقة كثيراً ما جمعتني برفاق الأمس. فعلت مثل ذلك فالتقيت ببعض منهم ورحنا نتحدث عن راديو لندن.
نطق أحدهم فقال: يا صاحبي ما بقيت تلك الإذاعة. راحت أيام زمان راديو لندن. من يوم ما تسلمناها نحن خربت. قلت له: هذا كلام لا أستطيع تقبله. تريد أن تقول إن العرب غير قادرين على إدارة برامج إذاعة؟ انظر إلى المحطات العربية الأخرى. انظر هنا إلى إذاعة «كل العرب».
قال آخر: لا الحكاية ليست بهذه البساطة. ولكن الإنجليز لؤماء. يختارون أسوأ من فينا ويسلمونهم المهمات ليثبتوا لنا أننا غير ذات كفاءة. قلت له: هذا أمر يفترض شيئين؛ أولا أن الإنجليز لديهم هذا القدر من الذكاء ليفكروا بذلك. ثانياً، أن يكون نحن العرب لنا الذكاء بحيث نميز بين الكفء وغير الكفء. قد أستطيع أن أوافق على واحدة من هاتين الفرضيتين ولكنني لن أوافق على الاثنتين كلتيهما، فهذا شيء سيؤدي إلى «بهدلة» الذكاء على نطاق عالمي.
مضينا في الحديث واستطردنا. فقلت للزميل: يا سيدي لماذا لا تفعلون ما حاولنا فعله في الأمس وفشلنا؟ اكتبوا مذكرة في الموضوع وطالبوا فيها هذه المرة بتعيين إنجليز على رئاسة الأقسام وقدموها للمسؤولين؟ قال: ومن يحمل المذكرة ويقدمها لهم؟ قلت: آه... نفس الحكاية القديمة حكاية من يعلق الجرس؟ قال: نعم. قلت ولكن لماذا الخوف الآن؟ قال: لأن المسؤولين الآن عرب!
وكانت أيام وأعوام وفاتت.