سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

فصحى «لايت»

نقاش واسع حول اللغة العربية ووضعها الكارثي، لا بد أن يفتح على مصراعيه، قبل أن يقع المحظور، ويغنّي كلٌ معزوفته الخاصة، التي ليست بالضرورة أفضل ما نريد أن نسمع. المؤتمرات الوفيرة التي عقدت، بقيت توصياتها حبراً على ورق؛ لأن المسؤولين قليلاً ما كانوا جادين في الاستماع إلى أصحاب الفكر. المستجدات حول علم الدماغ والأعصاب، تقلب خريطة التعليم في العالم كله، وتبدل المفاهيم. إذا كان من فضيلة للدكتورة سهير السكري وطرحها المثير للمخاوف، وهي المهمومة بإنقاذ العربية الفصحى، فهو أنها تحرك مياهاً راكدة، وتستفز أصحاب الآراء المناقضة لها، كي يستشيطوا. وهذا هو المطلوب. الحوار صحي، وفرض منهج كالذي تقترحه الدكتورة من دون استجماع الآراء، ودراسة المخاطر، وتوقي المحاذير يجلب الندامة. الباحثة السكري، تريد أن تفرض منهجاً محدداً وواضحاً، مشكلته أنه يركّز على نقطة واحدة، هي تغييب النصوص، وينسى غيرها. تقترح بين الثالثة والسادسة أن يحفظ الطفل القرآن المجوّد على الطريقة المصرية لما فيها من موسيقى، ويحفظ ألفية ابن مالك ملحنة في أغنيات، ويمكننا أن نعلمه ما نشاء من اللغات، في الفترة عينها، ثم ندربه على الكتابة بين الخامسة والسادسة، ونكون قد قبرنا الفقر، قبل أن تفوتنا الفرصة. والتجربة صارت معممة على 700 مدرسة. وهي قد تكون محقة في بعض الجوانب؛ لأن دراسات الأعصاب الجديدة، تساند نظريتها في ضرورة استغلال قدرة الجانب الأيسر من الدماغ على امتصاص المهارات اللغوية، في هذه الفترة المبكرة تحديداً، لكن ماذا عن المهارات الأخرى؟ هل نهملها، لأن قضيتنا الكبرى هي العربية في الوقت الحالي، ونقول بعد فوات الأوان، ليت الذي جرى ما كان؟ وهل اللغة هي مجرد مفردات مغيبة في الذهن نستعيدها كالببغاوات، وبخاصة أن طريقة الدكتورة تحظّر الشرح أو التفسير؟ الدكتورة تعرف لا بد أن الاكتشافات تظهر ليونة مماثلة ومتزامنة عند الأطفال، لتعلم الرياضيات. وهو ما دفع وزير التربية الفرنسي الجديد جان ميشال بلانكي، إلى تغيير المناهج، وإعادة تعليم العمليات الحسابية الأربع في الصفوف الأولى، بعد أن أصبح هذا العلم مرتكزاً لكل نجاح، ويعاني من عدم اكتسابه عدد هائل من التلاميذ، وتشكو من قلة المهرة فيه دول تريد أن تكسب السبق. واضطرت بريطانيا إلى الاستعانة بالصين كي تسد هذه الثغرة المكلفة اقتصادياً وتكنولوجياً. ستجيبني الدكتورة بأن اللغة هي الوعاء، ومن دونها لا معنى ولا فكر. وهذا صحيح، لكن الإجابة العلمية أن الرياضيات تكتسب كما أي لغة، باعتبار الأرقام لغة بحد ذاتها. فإن تقول صفراً، أي أنك تتحدث عن شيء غير موجود، وأن تعرف أن سبعة أقل من تسعة هو فهم للكمية والفروقات بين الأحجام. الفترة اليانعة نفسها، يبدو أنها الأمثل أيضاً، لتعلّم العزف على آلة موسيقية، وهو ما تبين أنه ما يغير من تشكيل الدماغ والمادة الرمادية التي أنسنتنا وأخرجتنا من طورنا الحيواني، باعتبار الأنغام لغة أيضاً. بالعودة إلى علم النفس، فالسؤال المطروح، كيف لطفل في سن تكون مفردته الأكثر تكراراً هي كلمة: «لماذا؟» أن يحرم من الإجابة، وفرض الحفظ وحده عليه، وهو يتلظى فضولاً. أليس الأجدى والليونة الدماغية على ما هي عليه، أن يحاور الطفل حول الخطأ والصواب، وتنمية المدارك بتحرير التفكير تحسين التدبير؟
الأمر أكثر تعقيداً مما تحاول أن تبسطه الدكتورة السكري، وأصعب من أن يشرح على عجالة، وهو متشعب. التعليم عملية تكوين معرفي لإنسان، ومسؤولية أخلاقية لكبار أوكل إليهم أمر تشكيل أدمغة غضة لها لدانة الأسفنج. وها نحن نكتشف أنها قابلة لامتصاص كل ما يعطى لها بشراهة، ونحدد من دون استشارتها مستقبلها، وطرائق تفكيرها عمراً كاملاً. لهذا؛ تصبح القرارات مكلفة إن لم تتخذ على حذر، وبوعي، وبعد تجريب واختبار.
الحفظ الغيب بحد ذاته ليس خطراً، إن بقي بحدود، وحين يترافق مع معارف أخرى، تؤمّن للطفل إنسانيته وتوازنه المعرفي، وحاجته الفضولية. وثمة نقطة أخرى مهمة في طرح الباحثة في اللغويات السكري، هو اعتبارها العامية لغة على طلاق بائن مع الفصحى، وأن الطفل يجب أن ينقطع ثلاث سنوات لتعلم الفصحى لأنه يبدأ من الصفر، وهو ما لا يمكن قبوله. فحين نقول في اللهجة اللبنانية «ما أحلاك!» أو «نام في التخت» أو «ما أغلظك!» أو حتى «يا حبيبتي يا ماما» فنحن في صلب الفصحى وإن كانت «لايت». والأجدى أن نعترف بقيمة عاميتنا وقدرتنا على الارتفاع بها، من أن نهمشها وندوس عليها، باعتبارها مجرد وسيلة للكلام والتواصل اليومي.
بطبيعة الحال. كل الاحترام للدكتورة سهير، التي تحاورت معها بمحبة بالغة، وأدرك سعة صدرها. فهي كما كل عربي يتألم في مجتمع يتقهقر لساناً وبالتالي فكراً. ومن يملك العلم ولا يجتهد ويدافع عن وجهة نظره، فهو مقصّر. لذلك؛ سيكون مفيداً طرح الأسئلة، وتحفيز الحوار حول موضوع يشغل حتى الدول الأنجح في التعليم والأكثر تقدماً في النتائج، فما بالك بمن ابتُلي بلسانه وعقله. لذا؛ وجب إشراك كل ذي اختصاص، في النفس والاجتماع والتربية واللغة، كما علماء الأعصاب الذين باتوا من الأعظم تأثيراً في ميادين التربية.
ثم أن الخوف كبير، لا بل مرعب، من تحويل الأطفال بمرور الوقت، وبحجة (نجاعة التعليم المبكر) إلى «روبوتات» تبرمج وتحضّر لمهمات معدّة سلفاً. اللغة في أي حال، أخطر من أن تترك بيد النحاة واللغويين وحدهم.