د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

قرقعة وتكسير وتفتيت

خلال الأسبوع الماضي وحده جرت واقعتان تخصان سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط: الأولى تخص علاقة قطر بالدول الأربع المقاطعة لها (السعودية والإمارات والبحرين ومصر)؛ والأخرى المعونات الأميركية لمصر. في الأولى، فإن الجوهر يكمن في قضية محاربة الإرهاب والإرهابيين، وبالتالي من يساعدهم بالتحريض والتمويل والتسليح والمأوى؛ وفي الأخرى توجد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة والدول التي تشاركها هذه المصالح في منطقة الشرق الأوسط. وفي كلتا، الحالتين فإن الولايات المتحدة تبدو كما لو كانت تتحدث بلغتين، وأحياناً قد يكون ذلك بثلاث لغات: لغة البيت الأبيض التي تلح على الحرب ضد الإرهاب واستئصاله والتخلص منه كلية؛ ولغة وزارة الخارجية التي تلح على توافق «دبلوماسي» بين الدول الحليفة، أي بين الدول التي تحارب الإرهاب، سواء كان ذلك في سوريا أو اليمن أو سيناء، وتلك التي تموله وتؤويه وتحرض عليه؛ ولغة الكونغرس التي تقحم إلى صورة العلاقات الدولية بين دول ذات سيادة ومصالح استراتيجية ونظم سياسية مستقلة، الصورة الأميركية لنظم الحكم وكيفية تسيير الدول وحقوق الإنسان حسب ما تراه المنظمات الحقوقية، وفي المقدمة منها «هيومان رايتس واتش». اللغات الثلاث لا شك تربك، وتقلق؛ وهي تربك لأن الدول ذات اللغة الواحدة لا تعرف كيف وعلى من ترد، وتقلق لأن لا أحد يعرف بأي لغة سوف تتحدث الولايات المتحدة في كل موقف، ولمن سوف تكون له القدرة على اتخاذ القرار في لحظات حاسمة، وهل هو البيت الأبيض، أم هو «المؤسسة» أي الوزارات المعنية، أم الكونغرس الذي يتحدث وعينه على الانتخابات المقبلة؟
في مقال الأسبوع الماضي أشرنا إلى أنه يبدو أن الرئيس ترمب قد بات أكثر تأثرا بالمؤسسة الأميركية ساعة اتخاذه القرار الخاص باستمرار الحرب والوجود الأميركي في أفغانستان. ومع ذلك، فإن ما يلف الحركة الدبلوماسية والسياسية الأميركية لا يبدو عليه السلاسة ولا التقاليد المستقرة للمؤسسة الأميركية، سواء كانت تلك التي في الحكومة أم في البيت الأبيض مثل مجلس الأمن القومي. وعلى أي الأحوال، فإن النظام السياسي الأميركي يبدو وكأنه يمر بحالة من الارتباك وانعدام الوزن.
ما هو أكثر من ذلك أن أحداث «شارلوتسفيل» التي جرت فيها المواجهة ما بين أحزاب وجماعات فاشية ونازية من ناحية، وجماعات من الليبراليين والعلمانيين والتقدميين من ناحية أخرى حول إزالة رموز خاصة بالجنوب والحرب الأهلية، لم تكن تخص ولاية فرجينيا وحدها، وإنما تخص تقريباً جميع ولايات الجنوب. بات الإعلام الأميركي ممتلئاً فجأة بالقصص التي تتحدث عن الجمعيات والروابط التي تريد المحافظة علي تاريخ الجنوب، ورموزه من الأعلام الكونفيدرالية، وحتى تماثيل أبطاله الذين اشتركوا في الحرب بين الشمال والجنوب. وبينما الصخب الكبير يجري على السطح وكأنه بين الرئيس ترمب والإعلام، وحتى داخل وبين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، فإن هناك حرباً أخرى تستعر تحت الرماد أسفل الحياة السياسية الأميركية.
هل يخص ذلك أميركا وحدها أم أن هناك عرضاً ما بات منتشراً في كل أنحاء العالم يدعو إلى الانقسام والتفتيت، وكلها ربما يرجع إلى تلك الفترة التي عندها تهاوى برجا مركز التجارة العالمي في نيويورك في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، وتهاوى معهما عالم كامل من الأفكار والمثل، وحتى السعي نحو التعايش بين الأديان والثقافات، وحتى الحضارات. أو كان ذلك على الأقل ما تحاوله الدول والأمم بغض النظر عن مدى نجاحها أو إخفاقها في تحقيق النموذج النقي لليبرالية التي باتت قيمها ومثلها هي الحاكمة للمواثيق الدولية التي تتالت بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى عندما اختلفت الدول الاشتراكية مع الدول الرأسمالية فإنها لم تنس اللجوء إلى ما سمته «الديمقراطيات الشعبية» لكي تبرر تطبيق مذهبها بصورة وبأخرى، وكان المعنى ساعتها أن طريقها إلى المساواة، والاعتراف بالآخر، أكثر اقتراباً من الحقيقة. وعندما عممت «العولمة» التي جاءت نتيجة تكسر الأسوار والحواجز الاقتصادية والتكنولوجية والفكرية بين الدول، فإن المرجعية العالمية أصبحت «الحرية» في السوق والرأي والمعتقد، وما بات يعد حقوق الإنسان الأساسية. وعلى أساس هذه الفكرة ظهرت أفكار أخرى عن «التدخل الإنساني»، والتحول الديمقراطي، وعالمية الحقوق الإنسانية، والمحكمة الجنائية الدولية، وهكذا أفكار ومؤسسات.
وعندما تهاوت الأبراج في نيويورك ومعها أفكار كثيرة بامتداد الكون، بل وأكثر من ذلك برز افتراض «صراع الحضارات» الحتمي، دفع ذلك بفجوة كبيرة بين عالم كان قد تغير بالفعل في اتجاه التعايش الإنساني بين البشر تبدى في انتقال السلع والأفكار ومعهما البشر، وعالم آخر يسوده الخوف والتوجس من الآخر. وبشكل من الأشكال، كان العالم يعيش تناقضاً حاداً بين آليات اقتصادية وتكنولوجية تضغط بشدة من أجل مزيد من التفاعل والتواصل والاتصال بين الناس؛ وحالة مرهقة من النفور والرفض للنتائج الثقافية والحضارية الناجمة عن هذه الحالة. وفي يوم من أيام القرن التاسع عشر قال كارل ماركس، ومعه طائفة أخرى من المفكرين، إن حدوث تناقض ما بين التطور في قوى الإنتاج، وحالة علاقات الإنتاج، يمكنه أن يولد صراعاً من نوع أو آخر. وإذا كان الصراع الذي رآه كان بالضرورة صراعاً طبقياً، فإنه في إطار العالم الذي نعيشه صار صراعاً ثقافياً وحضارياً قيمياً مع الآخر المختلف بطريقة ما حتى ولو كان الجار الذي يسكن في الشقة المجاورة.
المسألة في النهاية لا تخص أميركا وحدها، وربما تكون خاصة بالعالم كله، وإن ما يحدث من تناقض بين تيار العولمة والاندماج والتكامل العالمي من ناحية وتيار الخصوصية والتميز والانغلاق على الهوية من ناحية أخرى، ما هو إلا سمة من سمات هذه المرحلة من تاريخ العالم. في هذه الحالة، فإن التعامل مع الولايات المتحدة لا بد أن يكون متعدد الأبعاد، وليس فقط مع البيت الأبيض والمؤسسة بأفرعها المختلفة وللكونغرس، وإنما أيضاً مع الولايات المختلفة وجماعات فيها. هنا وطالما أن الولايات المتحدة مهمة وسوف تظل كذلك لفترة تاريخية قادمة، فإن التفاعل معها لا بد أن يكون متعدد التوجهات؛ ومثل ذلك يحتاج إلى نوعيات من المهارات الدبلوماسية والسياسية الجديدة. ولكن ربما كان الأهم من ذلك أن يكون تعريفنا لمصالحنا دقيقاً وحازماً، وكذلك توافقنا على ما تعنيه لكل الأطراف العربية المعنية متماثلاً؛ فالمرحلة المقبلة التي تئز بأصوات وقرقعة التكسير والتفتيت في منطقتنا وفي العالم ربما تكون أكثر المراحل حرجاً؛ فلا الولايات المتحدة، ولا العالم يبقى على حال.