خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

من البصرة لإسطنبول

يروي سليمان فيضي، السياسي المخضرم البصراوي فيقول في مذكراته إن شيوخ وكهول مدينة البصرة ونواحيها من جنوب العراق اعتادوا على إطلاق لحيتهم وشواربهم في مطلع القرن العشرين وكانوا يعتزون بها. ولكنه شذ عن هذا العرف عندما كان دون الثلاثين من عمره. وكان ذلك يسبب له بعض الإحراج في المجالس الموقرة في العراق، ولا سيما بين وجهاء مدينة البصرة.
ومن ذلك عندما أنحى بعضهم عليه باللائمة لحلاقة ذقنه والظهور بمظهر الأوروبيين، وكلهم كانوا ينتقدون الشباب الذين كانوا يحلقون ذقونهم ويظهرون بهذه الهيئة دون مراعاة تقاليد البلاد.
وكأي سياسي ناشئ يطمح للمناصب والجاه يهمه نيل احترام من حوله وتأييدهم، قرر الانصياع لهذا الرأي والمبادرة إلى إطلاق لحيته بشكل ظريف مختصر يرضي الجمهور.
مرت الأيام وحملته أسفاره إلى إسطنبول عام 1914 واجتمع فيها بعبد الرزاق النعمة وعبد الله صائب اللذين كانا يمثلان ولاية البصرة كنائبين في «مجلس المبعوثان» مثله. خرج ثلاثتهم يتريضون بالمشي في حدائق قاضي كوي الشهيرة من عاصمة الإمبراطورية العثمانية والتفرج على مناظر بحر مرمرة الخلابة من الشاطئ المقابل. كانوا ثلاثة لا رابع لهم. وحدث أن واجهتم ثلاث لا رابع لهن من حسناوات إسطنبول. مبرقعات بالبراقع الحريرية الشفافة يسرن في اتجاه العراقيين الثلاثة. يقول سليمان فيضي إنه شعر بأن إحداهن كانت تحدق النظر في وجهه. وهو ما يتصوره كل عربي عندما يصادف امرأة في طريقه. حتى إن اقتربت هذه الظبيات الثلاث من موضعهم سمعها تقهقه وتقول لصاحبتيها: «أتريان كم هي ظريفة لحية هذا البك الشاب»! شاركتها زميلتاها بالضحك في قهقهة عالية مليئة بالسخرية.
التفت سليمان فيضي إلى زميليه وقال: «يكفيني ما سمعت اليوم من سخرية وسأتخلص من لحيتي هذا اليوم وإلى الأبد مهما يكلفني ذلك».
سمعت الفتاة ما قاله الشاب بالتركية فأردفت قائلة لرفيقتيها: «أشد ما أنا مسرورة إذ خلصته من لحية لا تناسبه قط».
عاد السياسي العراقي الشاب إلى داره فروى الحكاية لأصحابه الآخرين في البيت وأخبرهم بعزمه على حلاقة ذقنه في الصباح الباكر إكراماً للآنسة المجهولة. كان بين الحاضرين نوري السعيد، رئيس الوزراء المزمن في العراق فيما بعد، فأصر على أن يأتيه بآلة الحلاقة بنفسه لتبقى تذكاراً بينهما، وربما ليثبت أنه سيكون من الرجال المجددين كما ظهر فيما بعد. يمضي سليمان فيضي فيقول: «وفي اليوم التالي كنت أسير في طريقي إلى البرلمان (مجلس المبعوثان) بخفة الطير». وكأن حملاً ثقيلاً قد زال من كاهله.
من يقول إن الرجل العربي لا يسمع كلام النساء أو يأبه به؟ ولكنني بعد أن ألقيت نظرة على صورته الفوتوغرافية النابية، قلت لنفسي آه يا ليتها ضحكت على شواربه أيضاً وأنقذته منها.