ستيفين ميهن
TT

كيف تعرضت النساء للإقصاء من ثورة الكومبيوتر

لماذا هذا العدد الضئيل من السيدات العاملات في مجال تصميم البرمجيات بوادي السيليكون؟ يعتقد جيمس ديمور، المهندس بشركة «غوغل» والذي تعرض للفصل من العمل لانتقاده لبرنامج التنوع الذي تتبناه الشركة، أنها مسألة «استعداد شخصي متأصل» جعل النساء تسير في أعقاب الرجال.
في الحقيقة، هو على خطأ، ففي فجر ثورة الكومبيوتر، كانت النساء، لا الرجال، هن من هيمن على صناعة البرمجيات. فقصة إعادة تشكيل حقل البرمجيات ليصبح حكرا على الرجال توضح بما لا يدع مجالا للشك أن ندرة المبرمجات النساء اليوم ليس له أدنى علاقة بالفوارق البيولوجية.
من كتب أول أوامر الكومبيوتر؟ أدا لوفلايس، الابنة المثيرة للجدل للشاعر اللورد بايرن هي من نالت هذا الشرف. فعندما صمم متخصص علم الرياضيات تشارلز باباج جهازا شبيها بكومبيوتر اليوم أطلق عليه اسم «الجهاز التحليلي» أدرك حينها أن تلك الآلة الجبارة بمقدورها أن تفعل ما هو أكثر من الحساب بأن تجرى برمجتها لتؤدي سلسلة من الإجراءات بصورة ذاتية، بحيث يحدد كل إجراء الخطوة التالية. فقد كانت ملاحظاتها في هذا الشأن بمثابة أول برمجيات الكومبيوتر.
استمر تقسيم العمل على هذا النحو - الرجال مسؤولون عن الأجزاء الصلبة بينما النساء تلعب بالبرامج - وكان هذا هو الحال بالنسبة لجيل الرواد لأجهزة الكومبيوتر الحقيقية. وفي عام 1943. شرع فريق جميع أعضائه من الرجال بمركز أبحاث بجامعة بنسلفانيا في صنع أول جهاز كومبيوتر يستخدم لجميع الأغراض بالولايات المتحدة أطلقوا عليه اسم «إنياك». وعندما حان وقت تشغيل المبرمجين، وقع الاختيار على ستة أفراد جميعهن من النساء لتولى عمليات البرمجة، فيما اقتصر عمل الرجال على التعامل مع الماكينة. ويتذكر أحد مهندسي أول جهاز كومبيوتر الذي أطق عليه اسم «أنيكا» تلك الفترة قائلا: «لم نكن نعتقد أننا سنمضي الوقت في القلق بشأن استكشاف أساليب البرمجة»، مضيفا: «سيكون هناك وقت كاف للقلق بهذا الشأن لاحقا». فقد كان هذا القلق والعبء ملقى على كاهل النساء، وبالفعل تمكن هذا الفريق النسائي من تقديم مساهمات جادة، وبمعنى أدق كان هو من اخترع مجال البرمجة. لكن لم يكن للبرمجة ختم يوثق به إنجازاته ولم يكن هذا المجال يحظى بشهرة تذكر، فلم يكن ذلك العمل ينظر له بوصفه مصدر إلهام، بحسب رواية المؤرخة جانيت أبات عن تلك الفترة. غير أن الكثير من الأقاويل باتت تتردد اليوم لتبرر عدم تشغيل النساء في البرمجة، عكس الحال تماما في الأيام الأولى لثورة الكومبيوتر. فقد كان المديرون القدامى على قناعة بأن المرأة تملك من الإمكانيات ما يجعلها تنجح كمبرمجة كومبيوتر، ناهيك عن ما حققته من نجاح في الأعمال الكتابية.
على سبيل المثال، أشارت محررة بمجلة «داتميشن» المختصة بالكومبيوتر، إلى أن المديرين عام 1963 اعتقدوا أن «السيدات يتمتعن بصبر أكبر من الرجال وتمكن أكبر في التعامل مع التفاصيل، وهما المتطلبان الرئيسان للمبرمج الناجح». الأكثر تشويقا هو أن «السيدات أقل عدوانية وأكثر قناعة بالمواقع اللاتي يشغلنها». كذلك فإن معدل الإقبال على تلك الوظيفة لا يتعدى 20 في المائة من العدد المطلوب في العام، ولذلك فإن فكرة الاعتماد على سيدات في مجال البرمجة تبدو الحل الأمثل لملء هذا الفراغ. وما يؤكد ذلك هو أن مجلة مثل «كوسموبوليتان» التي ترأس تحريرها هيلين غرلي براون اعتمدت وظيفة مبرمج ضمن وظائفها. وفي عام 1968، نشرت المجلة مقالا تحت عنوان «فتيات الكومبيوتر» امتدحت فيه الكومبيوتر كمجال عمل «لا يعرف التفرقة على أساس النوع»، وذلك بفضل المديرين الذين فضلوا توظيف السيدات نظرا لكفاءتهن. وأوضحت المجلة أن «جميع الشركات التي تستخدم أجهزة الكومبيوتر توظف السيدات للقيام ببرمجتها»، بيد أنها تراجعت لاحقا عندما قالت للقراء إن المبرمجات اتجهن لذلك العمل لا لشيء سوى أن الرجال اجتاحوا هذا المجال، ولذلك فإن وجودهن في هذا المجال سيجعل من السهل لهن مواعدة الرجال.
وفي الواقع، بدأ الرجال يدركون أن البرمجة هي أهم عمل متعلق باقتصاد المعلومات الجديد. ومن أجل زيادة الوعي بأهمية عملهن، شرع الجيل الأول من المبرمجين الرجال في خلق كيان محترف أدى إلى استبعاد النساء. وبحسب وصف المؤرخ ناثان إنسمنجر، فإن «برمجة الكومبيوتر تحولت بالتدريج وعمدا إلى مجال ذكوري منظم يهيمن عليه الرجال».
وقد بدأ مفهوم هيمنة المبرمجين الرجال في التبلور في ذلك الوقت، وبدأ الرجال العاملون في مجالات مرموقة مثل الفيزياء والرياضيات وهندسة الكهرباء في القفز إلى مجال جديد لم يكن له وجود احترافي في السابق، ولم يكن له مؤسسات احترافية ولا يمتلك كيانا يستطيع من خلال إبراز كوادره الجديدة. وكرس أصحاب تلك المهن أنفسهم لتحويل حرفة البرمجة إلى علم قائم بذاته.
وبحلول منتصف الستينات، أدى كل ذلك إلى تنامي نفوذ مجتمعات محترفة من المبرمجين، مثل «اتحاد العاملين بالكومبيوتر». غير أن قيادة هذه الكيانات اتجهت للرجال، وشرعوا في وضع العوائق التي عطلت مسيرة السيدات اللاتي كن قد وصلن بالفعل إلى مرحلة متدنية في هذا المجال.
بالإضافة إلى ذلك، شرع عدد كبير من الشركات الراغبة في تعيين مبرمجين في إجراء اختبارات في القدرات وفي الشخصية للعثور على الموظفين الأكفاء. غير أنه ثبت أن تلك الاختبارات كانت عاجزة عن اكتشاف ما إذا كان من الممكن أن يصبح المتقدم مبرمجا ناجحا. وعلى أي حال، كتب «اتحاد العاملين بالكومبيوتر»، الذي كان يمثل الكيان الوحيد صاحب السلطة في هذا المجال، أن «العلاقة بين الدرجات التي حصل عليها الممتحنون والأداء المستقبلي كانت صفرا»، ورغم ذلك حصل الرجال على الوظائف نظرا لدرجاتهم المرتفعة في الاختبارات، مما تسبب في استبعاد السيدات.
الأسوأ في كل ما قيل تمثل في الانطباع السائد حاليا بشأن السمات الشخصية لمبرمج الكومبيوتر، التي جعلت الناس تنظر له باعتباره شخصا منعزلا وغريبا وذا قدرات اجتماعية محدودة. وفي الستينات أعد عالمان نفسيان دراسات لمحاولة فهم السمات الشخصية التي تميز مبرمج الكومبيوتر عن غيره، وبالفعل وجدوا أنه محب لحل الألغاز، غير أن السمة الصادمة الوحيدة التي تميز بها الرجل المبرمج الناجح هي أنه «غير مبال بالناس»، لكن دراسة أجريت بعد عدة سنوات أظهرت أن تلك السمة تنطبق على المبرمجات السيدات أيضا.
وبدلا من معالجة ذلك الأمر، أصبح الرجل الانطوائي بمثابة النموذج الأمثل والمفضل لتلك المهنة عند عقد اختبارات. وعام 1968، ذكر المحلل ريتشارد براندون، أمام الحضور في الاجتماع السنوي «لاتحاد العاملين بالكومبيوتر» أن هيئة المبرمج الشائعة أن المبرمج «مستقل إلى حد بعيد، لكنه أناني في الغالب، مضطرب نفسيا، وقريب الشبه ممن يعانون من الشيزوفرينيا. ولذلك كثيرا ما نراهم وقد أطلقوا لحاهم، ويرتدون الأخفاف، وغيرها من سمات تلك الفئة الغريبة»، رغم أنها كانت في البداية مرتبطة بالسيدات الدقيقات في عملهن إلى حد الوسوسة.
*بالاتفاق مع «بلومبيرغ»