سكوت أتران
* شارك في إنشاء مؤسسة «أرتيس إنترناشيونال» ومؤلف كتاب «الحديث إلى العدو».* خدمة «واشنطن بوست»
TT

لا تكتفوا بالتنديد بالشباب الراديكالي... تحاوروا معهم

ربما تبدو أعمال العنف التي وقعت في شارلوتسفيل خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي، أمراً جديداً بالنسبة لبعض الأميركيين، وذلك عندما أقدم عنصري أبيض على إرهاب حشد من المتظاهرين بسيارته، ما أسفر عن قتل وإصابة عدد منهم على نحو عشوائي. بيد أنه في حقيقة الأمر يبدو هذا المشهد مألوفاً على نحو مؤلم، ويثير في الأذهان صوراً من هجمات وقعت في الفترة الأخيرة بمركبات في لندن ونيس وبرلين، وكانت جميعها مستوحاة من فكر تنظيم داعش.
ومنذ وقوع حادث شارلوتسفيل، اشتعلت حالة من الجدل داخل صفوف أبناء المنطقة، حول ما الذي كان يمكن فعله للحيلولة دون وقوعه. في هذا الصدد، قال مدرس منفذ الهجوم في المرحلة الثانوية: «أعترف أنني فشلت. لقد بذلت قصارى جهدي، إلا أن هذه بالتأكيد لحظة ينبغي لنا التعلم منها والحذر بشأن تكرارها؛ لأن مثل هذه الحوادث قادرة على تمزيق بلادنا».
في الواقع، يبدو ثمة تراجع مستمر في مكانة قيم الديمقراطية الليبرالية والمنفتحة بمختلف أرجاء العالم، في مواجهة التيارات القومية العنصرية والكارهة للأجانب والحركات الإسلامية الراديكالية، على غرار الهجمات التي شنها فاشستيون وشيوعيون ضد القيم الجمهورية في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي.
إلا أن هذا لا يمثل «صداماً بين الحضارات»، وإنما يمثل في حقيقة الأمر انهياراً للمجتمعات. ويمثل العنف العنصري والقومي - وكذلك الإرهاب الذي يرتدي عباءة الدين - ليس إحياءً لثقافات تقليدية، وإنما حالة من التداعي بها. الواضح أن ثمة فئة من الشباب انفصلت عن قيم الألفية الجديدة؛ بحثاً عن هوية اجتماعية تمنحهم مكانة ومجداً على الصعيد الشخصي.
وهنا تحديداً يكمن الجانب المظلم للعولمة، ذلك أن الأفراد يتحولون إلى الراديكالية في خضم سعيهم وراء هوية لهم، في إطار عالم يزداد تسطيحاً يوماً تلو آخر. لقد تخلينا عن الخطوط الرأسية للاتصال بين الأجيال لصالح اتصالات أفقية على مستوى العالم بأسره، لكن المفارقة أن هذه الاتصالات تجري في إطار قنوات معلوماتية تضيق يوماً تلو آخر. من دون وعي واسع النطاق وجهود جادة بمجال التوجيه، فإننا نخاطر بتأجيج مشاعر عنيفة، قد تودي بنا وبآخرين في مختلف جنبات العالم.
إن «التدمير المبتكر» لاقتصادنا القائم على السوق، الذي يجبر الأفراد على المراهنة على الإبداع والتغيير، غالباً ما ستصاحبه تكلفة اجتماعية فادحة، خاصة بالنسبة للمجتمعات والمناطق التي ليس أمامها سوى وقت ضئيل للتكيف. والواضح أن ثمة مؤسسات جديدة بدأت تحل محل القيم الروحية للمجتمعات التقليدية، والثقافات والديانات القائمة منذ أمد بعيد. وغالباً ما تتفجر مشاعر القلق والاغتراب على امتداد خطوط الانقسام السياسية، في صورة أعمال عنف تسعى لتحقيق الخلاص.
من جانبه، أطلق الفيلسوف الديني سورين كيكرغارد على هذا الأمر «دوار الحرية»، بينما أعرب الفيلسوف المعني بالإنسانيات إريك فروم، عن اعتقاده بأن الاضطرابات الاجتماعية تدفع الناس للبحث عن الاستقرار داخل الأنظمة الاستبدادية، مثل الفاشية والنازية والستالينية.
ويبدو أن العمل المستمر الذي يضطلع به فريق البحث المعاون لي حول التحول إلى الراديكالية في صفوف الشباب، يدعم هذه النظريات. في المجر، وجدنا أن الشباب اليوم يؤيدون بقوة دعوة الحكومة لاستعادة «التناغم الوطني» الذي سبق أن تمتعت به البلاد في ظل النظام الفاشي والموالي للنازية السابق. وفي العراق، وجدنا أن - تقريباً - جميع الشباب الذين التقيناهم ممن ينتمون إلى مناطق خضعت لحكم تنظيم «داعش» في الموصل، رحبوا بحكم التنظيم الإرهابي بداية الأمر؛ سعياً للتمتع بالاستقرار والأمن في خضم حالة الفوضى التي ضربت البلاد في أعقاب الغزو الأميركي. وفي شرق أوروبا، ثمة رفض متزايد على المستوى الشعبي للديمقراطية، باعتبارها منافسة بين القيم المختلفة تثير الانقسام في صفوف «الأمة». وداخل الشرق الأوسط، ينظر الأفراد إلى «الشريعة» باعتبارها القيمة التي تبقي الفرد والمجتمع ككل متماسكاً.
في الغرب، انضمت مجتمعات الطبقة العاملة التي تميل نحو اليسار، والتي تضررت بسبب العولمة الاقتصادية، والمدافعين عن القيم الثقافية المهددة من قبل العولمة المتعددة الثقافات، والذين يميلون باتجاه اليمين، إلى حركات شعبوية تعمل على إعادة التأكيد على أسبقية الدولة القومية. ويرفض هؤلاء التحالفات الدولية، ويمقتون التحركات نحو التنوع الثقافي. وفي أجزاء أخرى من العالم، وفرت حركات إرهابية عابرة للحدود سبلاً أمام مجموعات عنيفة، للوصول إلى مجتمعات من المهاجرين تعاني من تهميش متنامٍ، ما يثير زعزعة استقرار المجتمعات المضيفة داخل أوروبا وغيرها.
في المقابل، تساور كثيراً من قيادات الغرب والعاملين بالمجال الإعلامي المخاوف، إزاء الشوفينية وكراهية الأجانب اللتين أشعلتا حربين عالميتين، ما يدفعهم لمجرد التنديد بالتوجهات المتعصبة والعنصرية، فيما يتعلق بالهوية الوطنية أو الميول الثقافية. اللافت أنه عبر مختلف الثقافات، نجد أن أقوى صور الهوية للمجموعات الأساسية تعج بقيم مقدسة، مثل إبداء رفض قاطع للتخلي عن دين المرء أو وطنه بأي ثمن. واللافت أن مثل هذا الولاء - سواء تجاه دين ما أو آيديولوجيا علمانية - يدفع بعض الجماعات للتفوق، رغم امتلاكها قوة تسليح وبشرية أقل بكثير من الجيوش النظامية وقوات الشرطة التي تقف في وجهها.
المؤكد أن تسوية مثل هذه الصراعات المعقدة تستلزم جهوداً دؤوبة وطويلة الأمد؛ لاستكشاف حدود قدرة المرء على التسامح واحترام الآخر. ومثلما أخبرني أحد الأئمة الذي كان عضواً فيما مضى في «داعش»، فإن: «الشباب الذين قدموا إلينا لم نكن نلقي على مسامعهم محاضرات على النحو الذي يتلقاه الأطفال الحمقى، وإنما كان لزاماً علينا طرح رسالة أفضل وأكثر إيجابية عليهم».
وعليه، فإننا بحاجة لاستراتيجية لإعادة توجيه الشباب الراديكالي، من خلال السعي لتفهم مشاعرهم، بدلاً عن الاكتفاء بتجاهلهم، أو السعي للشعور براحة الضمير من خلال التنديد بهم.

* شارك في إنشاء مؤسسة
«أرتيس إنترناشيونال»
ومؤلف كتاب «الحديث إلى العدو».
* خدمة «واشنطن بوست»