أعود لأكتب عن اللغة بعد أن قلت في المقالة السابقة إنها ستكون خاتمة لما كتبته في هذا الموضوع، موضوع اللغة، لأني تحدثت فيها عن اليوم الذي جعلته منظمة «اليونيسكو» يوماً عالمياً للغة العربية. وكان موعد هذا اليوم قد اقترب. فهو كما يعرف الكثيرون يحل في اليوم الثامن عشر من ديسمبر (كانون الأول) كل عام؛ أي بعد أربعة أيام من نشر المقالة التي كتبتها عنه.
وقد كنت أعتقد أننا نحن الناطقين بالعربية سنكون أول المحتفلين بهذا اليوم تعبيراً عن اعتزازنا بهذه اللغة التي يتمثل فيها وجودنا، وتقديراً وعرفاناً لمنظمة «اليونيسكو» التي بادرت باتخاذ هذه الخطوة النبيلة إدراكاً منها للدور العظيم الذي أدته لغتنا وتؤديه في الحضارة الإنسانية باعتبارها مجالاً مفتوحاً يتسابق فيه البشر سعياً لكسب المعارف وتبادل الخبرات وتحقيق التقدم وإقرار السلام والدفاع عن حقوق الإنسان.
ومن الطبيعي، والعالم كله مدعو للاحتفال بهذا اليوم، أن أتوقع من جانبنا نحن أبناء العربية مشاركة ننتظم فيها جميعاً، أفراداً وجماعات، ومؤسسات رسمية وأهلية، وأن أعتبر مقالاتي التي نُشرت في هذه الصحيفة الغراء في الأسابيع التي سبقت الاحتفال مشاركة متواضعة حاولت فيها أن أؤدي واجبي نحو لغتنا، وألفت النظر للفرصة المفتوحة أمامنا جميعاً لنؤدي واجبنا نحوها، ولهذا جعلتها خاتمة لما كتبته أخيراً في هذا الموضوع الذي طرقته مرات من قبل لأتحدث في موضوعات أخرى.
لكني فوجئت حين رأيت أن اليوم العالمي للاحتفال باللغة العربية حل في موعده دون تأخير، وأن اللغة العربية تقف وحيدة تنتظر المحتفلين بها من أبنائها فلا تجد إلا الصمت!
كان هذا هو ما رأيته في اليوم المحدد للاحتفال، الثامن عشر من هذا الشهر، فسارعت إلى أوراقي أعبّر عن شعور بالغضب والاكتئاب تثيره في نفسي هذه الطعنات التي توجّه للفصحى في العقود الأخيرة، ليس فقط في يوم عادي لا يستدعي الانتباه والاحترام، بل في اليوم المحدد للاحتفال بها.
***
غير أن هذا الصمت كان مجرد هاجس أوهمني بوقوع ما لم يقع؛ لأن يوم العربية كان عامراً في الواقع بالاحتفالات التي لم تنل حقها في وسائل الإعلام المختلفة. وكيف كان يمكن أن يمر هذا العيد دون احتفال؟
مواهب العربية وذخائرها وفضائلها تمنحها حصانة ترفع قدرها وتحميها من النوازل والشرور. والناطقون بها يزيد عددهم على أربعمائة وعشرين مليوناً، غير الذين يعرفونها من الناطقين بلغات أخرى. لكن المشاركة في الاحتفال بيومها العالمي لا يتاح إلا لمن نالوا قسطاً من التعليم يمكّنهم من معرفتها وتذوقها، فضلاً عن أن الاحتفال باللغة لا يتحقق بالقدرة على القراءة والكتابة فحسب، وإنما يحتاج لبرامج معدة سلفاً ومعلن عنها على نطاق واسع تثير الشعور بالانتماء، وتجيب عن الأسئلة المطروحة وتلبي حاجات الناطقين بها في العصور الحديثة، ومن هنا حاجتنا الدائمة للمؤسسات المختصة بتعليم اللغة العربية ورعايتها وحمايتها بمختلف الطرق والوسائل.
ونحن ننظر في بلادنا فنجد من هذه المؤسسات المختصة ما يعد بالعشرات والمئات. مدارس، ومعاهد، وكليات جامعية، وصحف ومجلات، ومسارح وجمعيات، وإذاعات مسموعة ومرئية، فضلاً عن المجامع اللغوية التي بلغ عددها أكثر من عشرة مجامع، والمنظمات التي تتولى التنسيق بين نشاط هذه المفردات، ومنها مكتب تنسيق التعريب في المغرب، والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الألكسو) المعنية بالنهوض بالثقافة العربية على المستوى الإقليمي والقومي؛ لأن الثقافة العربية، كما يعرف حتى الأميون، ليست ثقافة بلد واحد، وإنما هي ثقافة كل الناطقين بالعربية، يتمثل فيها ماضينا وحاضرنا، ونستند لها في سعينا لبناء كيان جامع نحتل به مكاننا اللائق بنا في العالم إلى جانب الكيانات التي تقدمت وظلت وفية لتاريخها.
غير أن علينا ونحن نتحدث عن العربية في يومها العالمي أن نكون صرحاء مع هذه المؤسسات الكثيرة المختصة المنتشرة ما بين المحيط والخليج، فنقول لها إن احتفالها باللغة العربية في هذا اليوم مناسبة تسمح لنا بأن نسألها عما تقدمه للغة في الأيام العادية، وأن نصارحها بأن الكثير المنتظر منها أكثر بكثير من القليل الذي تقدمه كما نراه في المستوى الذي وصلت إليه لغة التعليم، ولغة الإعلام، واللغة عامة في هذه الأيام، وهو مستوى لا يسر، لا يُطمئن، بل يثير الإشفاق والخوف مما يمكن أن تتعرض له لغتنا غداً أو بعد غد.
فإذا كان علينا الآن أن نتحدث باختصار عما وصل إلينا من أنباء الاحتفالات التي أقيمت باليوم العالمي للغة العربية في مصر بدأنا بالاحتفالية التي أقامتها الأمانة العامة لجامعة الدول العربية ومجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية تحت شعار «تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها: السياق والمنجزات»، بالتزامن مع الذكرى السنوية لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتماد اللغة العربية لغة رسمية.
وننتقل للاحتفالية التي نظمتها كلية دار العلوم – جامعة القاهرة وشاركت فيها الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية، بالتعاون مع مؤسسة الأهرام. وفي هذه الاحتفالية كان الحديث عن اللغة العربية التي لم تكن مجرد أداة للتخاطب، بل كانت وعاء للمعرفة، وذاكرة حية للأمة، وجسراً حمل العلوم والآداب والفنون عبر القرون. كما تطرق الحديث إلى التكامل بين دار الكتب ودار العلوم.
ومما يثير شعورنا بالثقة والرضا أن نعرف أن المحتفلين باليوم العالمي للغتنا لم يكونوا كلهم من أبنائها، بل كان فيهم بعض الأجانب كما نرى في المؤتمر الدولي الذي نظمته الجامعة الأميركية في القاهرة وقدمته في اليومين السابع عشر والثامن عشر من هذا الشهر تحت عنوان «الابتكار وتحولات مشهد تعلم اللغة العربية من التعليم المدرسي إلى ما بعده»، وشاركت فيه نخبة من الجامعيين والباحثين والخبراء العاملين في مؤسسات تعليم العربية.
ونختم هذا الحديث بالاحتفال الذي نظمه المتحف القومي للحضارة المصرية تحت شعار «إرث يتجدد بخط يتألق» وذلك بالتعاون مع سفارة سلطنة عمان بالقاهرة، ومشيخة الأزهر، ومجمع اللغة العربية.
والتحية لكل من شارك في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية. يوم نحتفل به كل يوم.
