استقلال ليبيا الذي صادف ميلاد السيد المسيح، في 24 ديسمبر (كانون الأول) عام 1951 كان موعداً بهيجاً، أعلنته الأمم المتحدة قبل عطلة عيد الميلاد بيوم، ففي الخامس والعشرين من ديسمبر من كل عام يحتفل نصف العالم بمولد السيد المسيح، وفي ليبيا نحتفل بذكرى استقلال نالته ليبيا بجهد رجالها، بعد مسيرة كفاح وطني طويل ضد مستعمرين استيطانيين فاشيين، حاولوا أن يستبدلوا بالشعب الليبي شعباً إيطالياً، وسجنوا شعباً في معتقلات إبادة لم يسبق للتاريخ أن شهد مثلَها، حيث شهدت ليبيا أول استخدام للطائرات في الحرب ضد شعب أعزل من السلاح.
ولكن ليبيا اليوم مستباحة السيادة الوطنية بالتدخل الخارجي والمرتزقة والميليشيات خاصة في العاصمة، فليبيا تغرق في مستنقع التدخلات الأجنبية، بل وتبعية بعض الليبيين للمستعمر والحنين إليه، ولعل الاتفاقية التي أبرمتها حكومة الوفاق غير الدستورية مع تركيا نموذجاً للتبعية والتفريط في السيادة الوطنية.
اليوم، غاب المعنى الحقيقي لذكرى إعلان الاستقلال وميلاد دولة للأمة الليبية الكريمة، كما خاطبها الملك الراحل إدريس الأول لسنوات طويلة زمن العقيد القذافي، لأنه لم يكن يعترف بأنه استقلال كامل السيادة الوطنية، ولهذا منع الاحتفال به، وغاب عن الأجندة الوطنية 42 عاماَ، بسبب وجود قواعد أجنبية وإن كانت ضمن اتفاقيات مع السلطة الوطنية زمن الملك إدريس.
الاستقلال صنعته عزيمة الأجداد التي هزمت مشروع التقسيم «بيفن - سفورزا»، فيوم الاستقلال يبقى دائماً تذكيراً للأجيال الجديدة، بمعاناة الآباء والأجداد، لنيل الحرية، وبناء وطن مستقل، منذ أن أعلن موحد ليبيا الراحل إدريس الأول استقلال ليبيا بقوله: «نعلن للأمة الليبية الكريمة أن ليبيا أصبحت دولة مستقلة ذات سيادة»، فالاستقلال تتمثل معانيه في الغياب التام للتبعية.
عزيمة الأجداد في إصرارهم على منع تقسيم ليبيا، ضمن مشروع التقسيم «بيفن– سفورزا»، جاء رفضاً حتى للوصاية الاستعمارية للدول الثلاث، بريطانيا وفرنسا وإيطاليا بقرار أممي كان سيصدر لولا فارق صوتٍ واحد، جاء بعد إقناع الأجداد حكومةَ ومندوبَ هايتي السيد إميل سان، فكان الصوت الفارق ضد المشروع المشبوه، لكلٍّ من أرسنت بيفن والكونت سفورزا، وهو اتفاق سري يتضمَّن مشروعَ العودة لاستعمار ليبيا مقسمة، من نافذة الانتداب والوصاية كوجه استعماري جديد، وفي ثوب مختلف، ليتمكن به من أن يغرر بالأمة على الإضرار بنفسها، تحت شعار منفعتها في وجود انتداب، ووصاية أجنبية تكون بمثابة مرحلة انتقالية هي في الأصل تمديد لفترة استعمارية.
ما آلت إليه البلاد الآن من خراب وذل وفساد وتدخلات أجنبية يعتبر خيانة لدم الأجداد الذين بذلوا الغالي في سبيل الاستقلال. لقد خان سياسيو ليبيا اليوم بلادهم، وفرطوا في السيادة الوطنية بل والثروة الوطنية، بترسيم حدود جغرافية زائفة مع تركيا لا تربطها بليبيا أي حدود جغرافية، وهذا يعدُّ جريمة تاريخية تسببت في ضياع ثروات ليبية، وشرعنة نهبها، وتسليم ليبيا قاعدة للغير، وخيانة عظمى لا تسقط بالتقادم وتجب ملاحقة مرتكبيها.
ليبيا في زمن الاستقلال كتبت أفضل دستور في خمسينات القرن الماضي وهو دستور 1951، وهي اليوم أمام مسودة أخونة للدولة الليبية، مسودة كتبت بحبر إخواني واضح المعالم وعابر للحدود، تنكرت لعروبة ليبيا ولأمتها، وتلاعبت في آلية اختيار الأعضاء بين الانتخاب والتمثيل، واعتمدت المغالبة السكانية بين الأقاليم، وكرست لمركزية السلطة حتى الخدمية منها.
فمسودة الدستور ربما تكون كُتبت بحبر تيار لا يؤمن بالدولة الوطنية بمفهومها الجغرافي المحدد، فما نُشر من مسودات ومذكرات لا يرقى إلى طموحات الليبيين، بل إنَّه يمثل صدمة وخيبة أمل كبيرتين، وفتح هذا الباب أمام التكهنات، خاصة عندما تسقط الهوية بدءاً من اسم الدولة إلى انتمائها إلى الوطن العربي، وجعلها مجرد كيان منفرد.
بين ليبيا الاستقلال وليبيا المستباحة اليوم زمنٌ طويلٌ من الكفاح، وتاريخ لا يمكن القفز عليه رغم محاولات أخونة ليبيا وصبغها بلون ليس لونها وطمس تاريخها.
في ذكرى الاستقلال نستذكر قول الملك إدريس: «إن المحافظة على الاستقلال أصعب من نيله»، فهل سنحافظ على الاستقلال، أم سيضيع بسبب الحمقى وطلاب السلطة وأصحاب الأجندات، والآيديولوجيا المستنسخة، وطلبهم وسعيهم إلى استجلاب المستعمر، ورهن إرادة الأمة الليبية واستقلالها للأجنبي.
ولكن دوام الحال من المحال، فاليوم في ذكرى الاستقلال، نتمنَّى أن تخرج ليبيا من أزمتها بسلام، وتتجنَّب الحرب الأهلية، وتفكّك الدولة وانقسامها الجغرافي بعد أن انقسمت سياسياً إلى حكومتين وبرلمانين، ليبقى السؤال: ماذا تبقَّى من ذكرى الاستقلال في ليبيا دون إجابة؟
