د. عبد الله الردادي
يحمل الردادي شهادة الدكتوراه في الإدارة المالية من بريطانيا، كاتب أسبوعي في الصفحة الاقتصادية في صحيفة الشرق الأوسط منذ عام ٢٠١٧، عمل في القطاعين الحكومي والخاص، وحضر ضيفا في عدد من الندوات الثقافية والمقابلات التلفزيونية
TT

تفاؤل الجنوب وتشاؤم الشمال

استمع إلى المقالة

مرة أخرى يصدر تقرير جديد عن حالة التشاؤم في الشمال العالمي. فالدول المتقدمة والكبرى، بعد أن استمرت لعقود تقود نمو العالم، وبعد أن كانت أكثر المناطق جاذبية في العالم، أصبحت الآن في حال لا تقنع حتى شعوبها. وفي المقابل، فإن المناطق التي كانت تُعرف بأنها الأكثر هشاشة اقتصادياً أصبحت اليوم أكثر تفاؤلاً بالمستقبل. هذه المفارقة رصدها بوضوح تقرير معهد «مبادرة مستقبل الاستثمار»: «FII Priority Compass 2025» الصادر نهاية شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، الذي جاء ليؤكد – من مناظير عدة - نتائج تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي الذي صدر قبله بشهر.

وقدم تقرير المعهد دراسة عالمية شملت أكثر من 61 ألف مشارك من 32 دولة تمثل ثلثَي سكان العالم، وتهدف إلى قياس المزاج العالمي حول اتجاه الحياة الشخصية والبلدان والعالم ككل. قسّم التقرير نتائجه إلى الشمال والجنوب العالميين، وتناول مجموعة من القضايا التي تشكل أولويات الإنسان المعاصر: تكاليف المعيشة، والبطالة، والفقر، والذكاء الاصطناعي، والطاقة، والصحة، والتماسك الاجتماعي، والابتكار المالي. كما حلل الفوارق بين الأجيال والجنسين في النظرة إلى المستقبل.

وجاءت نتائج التقرير حاسمة؛ فما يقارب 78 في المائة من سكان الجنوب العالمي يرون أن حياتهم تسير في الاتجاه الصحيح، مقابل 73 في المائة فقط في الشمال. وعندما يتعلق الأمر ببلدانهم، عبّر 58 في المائة من سكان الجنوب العالمي عن تفاؤلهم بمسار دولهم، في حين لم تتجاوز النسبة 35 في المائة في الشمال، أما النظرة إلى العالم ككل فبلغ التفاؤل في الجنوب 50 في المائة مقابل 19 في المائة فقط في الشمال؛ أي إن الفجوة في الرؤية بين الطرفين تتجاوز ثلاثين نقطة مئوية.

وتُظهر تفاصيل التقرير أن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي أكثر منطقةٍ تفاؤلاً عالمياً، وهو بالضبط ما توصل إليه منتدى الاقتصاد العالمي قبل عدة أسابيع في تقريره الذي استشف رؤية كبار الاقتصاديين في العالم، ويرى 75 في المائة من سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أن بلدانهم تسير في الاتجاه الصحيح، و82 في المائة راضون عن حياتهم الشخصية، وتليها آسيا وأفريقيا، في حين تأتي أوروبا وأوقيانوسيا في ذيل القائمة. وعلى مستوى الدول، تصدّرت الصين بنسبة 91 في المائة، والسعودية بـ89 في المائة، وفيتنام بـ88 في المائة، أكثر الدول تفاؤلاً، في حين سجلت الولايات المتحدة وألمانيا واليابان أدنى مستويات الثقة بالمستقبل.

كما كشف كذلك التحليل الديموغرافي عن فروقات لافتة؛ فالشباب ما بين 18 و34 عاماً هم الأكثر تفاؤلاً عالمياً، ويتقدمون على أكبر الفئات سناً بفارق يصل إلى 15 نقطة مئوية، كما أظهرت البيانات أن النساء في الجنوب أكثر تفاؤلاً من الرجال، خاصة في الشرق الأوسط وأفريقيا، في حين يحدث العكس في أوروبا واليابان حيث النساء أكثر تشاؤماً، ويربط التقرير هذا التباين بتوسع التعليم والرقمنة وزيادة مشاركة النساء في سوق العمل.

أما في التقنية، فيُظهر التقرير أن 65 في المائة من سكان الجنوب يرون في المنصات الرقمية أداة تمكين، مقابل 57 في المائة في الشمال، وأن ما نسبته 87 في المائة من المشاركين عالمياً يريدون إطاراً دولياً لتنظيم الذكاء الاصطناعي. أما في ملف الطاقة، فأبدى 66 في المائة استعداداً لدفع تكلفة أعلى من أجل طاقة نظيفة، لكن سكان الجنوب شددوا على أولوية القدرة على تحمّل التكاليف على حساب الاهتمام البيئي. هذه النسبة بعد كل الأجندات والحملات الإعلامية التي صدرها الإعلام الغربي في هذا الشأن.

وفي خاتمة التقرير، أشار المعهد إلى أن العالم اليوم يدخل مرحلة «إعادة تعريف الأولويات»؛ فالتفاؤل لم يعد امتيازاً للشمال الغني، بل أصبح طاقة متجددة مصدرها الجنوب الصاعد؛ فالشباب يرون في التقنيات فرصة، والنساء أكثر حضوراً في التنمية، والمدن الجديدة من الرياض إلى نيودلهي تمثل مختبرات للمستقبل. ويرى التقرير أن العقد القادم سيشهد تحول مركز الحوار العالمي نحو الجنوب، الذي سيقود النقاش حول العدالة في توزيع التقنية والثروة، ويعيد تعريف مفهوم «التنمية» ليصبح مرادفاً للثقة والقدرة على الحلم، كل ذلك في حين ينشغل الشمال بمخاوف الركود والتضخم والشعوبية.