أظن أننا نستطيع الآن أن نتساءل حول الصورة التي نحملها للغرب والغربيين، هل تغيرت هذه الصورة بعد ما رأيناه من تحوّل لا نستطيع الآن أن نقدر مداه في موقف الغربيين من القضية الفلسطينية؟ أم أنها لا تزال هي الصورة التي توارثناها جيلاً بعد جيل؟
لقد كان لنا الحق من قبل في مسافة فاصلة نحافظ عليها في علاقتنا بالغربيين إلا في الثقافة التي اعتبرناها ساحة إنسانية مشتركة لا يجوز فيها الفصل أو المقاطعة، على العكس مما كان يحدث في السياسة التي لم يترك فيها الغرب فرصة للإيقاع بنا والنيل منا إلا وانتهزها. أما الآن ونحن نراهم أو نرى كثيراً منهم يراجعون أنفسهم، ويكفرون عن سيئاتهم، ويقولون ما يقولونه، ويفعلون ما يفعلونه إزاء الفلسطينيين وقضيتهم العادلة وحقهم المقدس في الحياة والحرية فقد تغيّر الموقف بعض الشيء، وأصبح علينا أن ننظر فيما حدث، ونعيد النظر في الصورة بالقدر الذي تغير به الواقع أملاً في أن يكون ما حدث حتى الآن بالقول مقدمة لأن يصبح أفعالاً تعيد الحق إلى نصابه، وهو ما ننتظره من الغربيين ونطالبهم به، ونعتبره واجباً لا بد أن يؤدوه، لأنهم لم يكونوا فيما حدث للفلسطينيين وفيما حدث للعرب جميعاً محايدين، بل كانوا مشاركين، والأصح أن نقول إنهم كانوا فاعلين. فهل راجعوا أخيراً أنفسهم وثابوا إلى رشدهم، ورأوا في غزة الصورة الصارخة لما صنعوه في فلسطين؟
***
ونحن نتابع منذ عامين ما يحدث في مدن الغرب من ردود الفعل على ما يقوم به الإسرائيليون في غزة، ليس فقط مع «حماس» ورجالها المسلحين، بل مع الفلسطينيين جميعا، رجالاً ونساء وأطفالاً، في مدنهم وقراهم، وفي شوارعهم ومنازلهم ومدارسهم ومستشفياتهم، ليلاً ونهاراً، وشهراً بعد شهر، وعاماً بعد عام. نتابع المظاهرات التي لم تنقطع في مدن الغرب وشارك فيها الألوف ومئات الألوف كما حدث في إيطاليا، وإسبانيا، والمكسيك، فضلاً عما حدث ويحدث في الجامعات، وعن الأعلام الفلسطينية التي رُفعت في المعاهد والكليات وحتى في البلديات. فإذا كان للإسرائيليين رد يبررون به للغربيين ما يفعلونه لو كانوا يقاتلون «حماس» أو أي جماعة فلسطينية مسلحة، فبأي منطق يبررون تدميرهم للمدينة وهدمها على من فيها، وتجويعهم للصغار والكبار، ليس يوماً أو يومين، بل عامين متتاليين قابلين للمواصلة والاستمرار؟!
وهل يكون حق الإسرائيليين حتى لو تصدوا لـ«حماس» وحدها كحق «حماس» في التصدي للإسرائيليين؟
«الفلسطينيون تصدوا بما يملكون لأعداء مغتصبين استولوا على وطنهم منذ ثمانين عاماً أو مائة عام، والإسرائيليون سواء كانوا في غزة، أو في القدس، أو في يافا، أو في تل أبيب لصوص مغتصبون لا حق لهم فيما انتزعوه بالقوة هم ومن مكّنوهم من الاستيلاء على فلسطين والحكم على أهلها بهذا المصير الذي يتقلبون في نيرانه منذ مائة عام إلى اليوم.
فإذا كان هذا هو ما أصبحنا نحدث به أنفسنا بعد أن تخلى العالم عنا ووقف مع المغتصبين وزوّدهم بالمال والسلاح، ومكّنهم من ارتكاب جريمتهم، وسمّاهم مع ذلك ضحايا مضطهدين، وجعلنا نحن ومن تسوّل له نفسه أن يقف إلى جانبنا أعداء للسامية! إذا كان هذا هو ما كنا فيه فها هو الحق يفرض نفسه على من أنكروه، ويريهم إلى أي حد ذهبوا في إنكارهم له ووقفوا ضده مع الباطل الذي تربى في حجرهم منذ أن كان أسطورة ملفقة حتى صار دولة ملفقة.
تلك هي الحقيقة الصارخة التي لا يستطيع أن ينكرها غربي أو شرقي، وإلا فمن هم الذين اضطهدوا اليهود في أوروبا؟ الأوروبيون. ومن هم الذين فتحوا لهم فلسطين وخيّروا أهلها بين الموت والفرار؟ الأوروبيون!
هذا الباطل الذي كان يتسلح بالأسطورة ليخفي أنيابه ومخالبه لم يعد مضطراً لأن يتخفى بعد أن سلّحه ذووه الأوروبيون والأميركيون بالقنبلة النووية، وهذا كشف عن وجهه الحقيقي مضطراً ليصل بجريمته النكراء إلى نهايتها التي كان لا بد أن تقوده إليها، وهي إبادة الشعب الذي ما زال يطالب بحقه في مواجهة الأسطورة التي لا تستطيع في وجود أصحاب الحق أن تنكر أصلها. وفي مواجهة هذه الأهوال التي يتعرض لها الفلسطينيون استيقظ الغربيون من غفلتهم، لأنهم أول المسؤولين عما حل بهذا الشعب المظلوم المناضل، وعما يحل به إلى هذه الساعة.
ومن الطبيعي أن يكون السباقون في هذه اليقظة هم المشاهير أصحاب الضمائر من الفنانين وغير الفنانين الذين يحبهم الجمهور ويتأثر بهم ويصدقهم، فهم مسؤولون بقدر ما هم مسموعون. وإذا كان رجل الشارع في البلاد الغربية لا يستطيع أن يعبر عن رأيه إلا في مظاهرة يشارك فيها الآلاف، فالكاتب أو الممثل أو نجم الكرة قادر على التعبير عن رأيه بمفرده. وهذا هو ما تصنعه الآن الممثلة الإسبانية بينيلوبي كروز وزوجها الممثل خافيير بارديم اللذان وقعا مع مائة من السينمائيين الإسبان بينهم المخرج بيدرو ألمودوفار، رسالة دعوا فيها الاتحاد الأوروبي للعمل على إيقاف هذه الحرب التي يشنها الإسرائيليون على أهل غزة، وطالبوا دول الاتحاد بإدانة هذه الحرب التي عدّها خافيير بارديم «إبادة جماعية» وله الحق كل الحق. فهذه الإبادة هي ما يقصده الإسرائيليون بالضبط، ويسيرون فيه حسب خطة مرسومة ينفذونها مرحلة بعد مرحلة ينتهزون فيها الفرص ويستغلون الظروف.
ومثلما فعل الفنانون الإسبان فعل الفنانون الإنجليز. روجر ووتزر وهو شاعر وعازف جيتار ومؤلف أغانٍ في فرقة الروك «بينك فلويد» يندد بما يرتكبه الإسرائيليون ضد الفلسطينيين ويدعو لمقاطعتهم، ويشجع الفنانين الذين رفضوا تقديم عروضهم في إسرائيل.
وكما فعل الفنانون الإسبان والإنجليز فعل غيرهم من الفنانين في أنحاء العالم، من بينهم الأميركي رامي مالك وهو من أصول مصرية، ينشر صورته في «فيسبوك» متلفعاً بالعلم الفلسطيني.
وليس غريباً أن نرى ضمن المدافعين عن الفلسطينيين فناناً يهودياً هو الممثل الكوميدي الأميركي جون ستيوارت، لأن الجرائم الإسرائيلية بالغة الضراوة والوحشية أكثر من أن ينكرها أحد ولو كان يهودياً ما دام يتمتع بضمير حي.
والمجال لا يتسع للحديث عن عشرات آخرين من الفنانين ونجوم الكرة لم يقصروا في التعبير عن إدانتهم لما يفعله الإسرائيليون ومطالبة دول العالم، خصوصاً في الغرب، بالتدخل ومنع الإسرائيليين من مواصلة ارتكاب جرائمهم ضد الفلسطينيين.
ومن الطبيعي أن نسأل هنا عن الفنانين العرب وعما قدموه لأشقائهم من صور الدعم والتأييد، ومخاطبة شعوب العالم وحثها على القيام بما يجب عليها في هذه القضية التي أصبحت قضية كل إنسان له ضمير.
