لجأ صاحب محل خياطة شهير في نيويورك قديماً إلى حيلة نجح من خلالها في إقناع زبائنه. فقد تظاهر سِد دروبك بأنه ضعيف السمع أمام زبونه، فسأل أخاه عن ثمن البدلة التي طلبها الزبون. فرد عليه أخوه هاري صارخاً: «42 دولاراً»، فالتفت سِد إلى العميل وقال بكل براءة: «يقول 22 دولاراً». هنا لوحظ أن هذا المشتري وغيره من المشترين قد سارعوا لاغتنام الفرصة بالموافقة الفورية على السعر قبل أن يُكتشف الخطأ.
ما حدث هو أن الزبون وقع في فخ قاعدة ذهنية توحي بأن «الأغلى، أفضل». أثبتت دراسات عديدة في علم التأثير أن السعر المرتفع يؤثر فعلياً في الاقتناع بجودة السلعة.
وذكرتني تلك الحيلة الشهيرة في أدبيات التأثير بمعضلة تحديد سعر المناقصات في الوطن العربي، وهي التعاقد مع الأرخص، ثم ما نلبث أن نكتشف أن الأرخص كان الأسوأ جودة. ولذلك تعتمد بعض المنظمات على «السعر المتوسط»، أو الأغلى في حالات معينة، مثل المشاريع الحيوية كالمستشفيات والجسور، أو في الخدمات العالية التخصص كالاستشارات الهندسية والتقنية، التي يتقدم فيها معيار الجودة على السعر. كمن يفضل الدواء الأغلى على الأرخص، وإن كانت مكوناتهما واحدة.
في سنغافورة مثلاً جرى اعتماد نظام «القيمة الأفضل»، الذي يمنح وزناً أكبر لعناصر الخبرة والجودة مقارنة بالسعر. وطبّق الاتحاد الأوروبي ما يعرف بالمناقصة الأكثر جدوى اقتصادياً، بحيث لا يفوز الأرخص، بل من يحقق أفضل توازن بين التكلفة والجودة والاستدامة.
بعض المناقصات يصعب ضبط معايير منتجاتها وخدماتها بدقة، مما يفتح باب التلاعب الذي يؤدي إلى منتج أقل جودة.
في اليابان مثلاً، يشتهر لديهم نظام مناقصات حكومية في البنى التحتية، يرتكز على «مقياس العمر التشغيلي»؛ أي أن تقديم الشركة لعرض يثبت أن منتجها يعيش لمدة أطول ويتطلب صيانة أقل يمنحها نقاطاً إضافية على السعر. الفكرة من ذلك أن ما هو أرخص اليوم قد يكون الأغلى بعد عقدين من الصيانة. في هولندا ابتكرت البلديات نظاماً يكافئ المقاول الذي يثبت انخفاض الانبعاثات الكربونية في مشاريعه وهكذا.
وعنصر الاستدامة ليس مرتبطاً بالبيئة والاقتصاد فحسب، فمن حق الجهات أن تستبعد عرضاً لا يتضمن خطط تدريب موظفيها على المشروع، لتنتقل إليهم الخبرة، فهو حل مستدام يطور العنصر البشري.
في اجتهادات البشر ليست هناك طريقة مثلى للحصول على السعر المناسب، لكن البديهي أن يبذل الفرد جهده ليظفر بمقارنة عادلة. وتحرص الجهات أن تراجع آلية اختيار المشروع الأفضل بناء على معايير تتطور بتطور الزمان والمكان والمشروع.
