ليس هذا العنوانُ من مبتكراتي. فالنصفُ الأولُ منه هو عنوان لمقالةٍ كتبها الأديبُ اللبنانيُّ الكبير ميخائيل نعيمة في كتابه الشهير «الغربال». أمَّا نصفُه الثاني فهو مقتبس من حكاية رواها الحكيم الصيني القديم تشوانغ تسي، مفادها أنَّ ضفدعاً يعيش في قاع بئر مهجورة فلا يعلم من السماء إلا ما يراه من خلال فتحة البئر. وكان آخِر مَن استحضر هذه الحكاية هو السيد روبرت فيتسو، رئيسُ وزراء جمهورية سلوفاكيا، خلالَ لقائه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في بكين، على هامش حضورهما احتفالية الذكرى الثمانين لانتصار حرب مقاومةِ الشعب الصيني ضد العدوان الياباني والحرب العالمية ضد الفاشية، إذ قال: «أحياناً أشعر بأنَّ الاتحاد الأوروبيَّ كضفدع يعيش في قاع بئر لا يرى ما في خارجها. لكن العالم مختلف تماماً. وأشعر أحياناً بخيبة أمل كبيرة لأنَّ الاتحاد الأوروبي، رغم احترامي الكبير له، غيرُ قادرٍ على الاستجابة لتحولات العالم».
تبادر هذا العنوان إلى ذهني وأنا أقرأ تصريحات السيدة كايا كالاس، الممثل الأعلى للشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي بشأن الاحتفالية الصينية المذكورة، حيث قالت إنَّ الزعماء المجتمعين في بكين يسعون إلى إقامة «تحالف استبدادي». وفي مناسبة أخرى علّقت على قمة منظمة شنغهاي للتعاون التي عُقدت قبل أيام في مدينة تيانجين الصينية: «كان هناك قادة من أكثر من عشرين دولة. لا يمكن اعتبار سوى عدد قليل منها دولاً ديمقراطية... ولا تُعتبر أيٌّ منها حرّة تماماً وفق تصنيف منظمة فريدوم هاوس (Freedom House). هذا هو التحدي الذي يواجهنا. وشئنا أم أبينا، فإنّ أوروبا منخرطة في معركة من أجل الحرية والديمقراطية».
لم أجد تعبيراً أدق من «نقيق الضفادع في قاع بئر» لوصف هذه التصريحات الغريبة، لأنها تفتقر إلى أي إدراك لحقائق السياسة الدولية في عالمنا الحالي. فأوروبا اليوم واقعة بين مطرقة النسر الأميركي وسندان الدب الروسي، فقد خرجت مؤخراً من الحرب التجارية مع أميركا باتفاق مُهين، وصف السيد فرانسوا بايرو رئيس الوزراء الفرنسي (آنذاك) يوم توقيع الاتفاق بأنه «يوم مظلم لتحالف الشعوب الحرة»، كما أن القارة العجوز المنخرطة في حرب ضروس بين روسيا وأوكرانيا، عاجزة عن إيجاد مخرج لها، فيما تستنزف هذه المأساة الجيوسياسية المستعصية القدرات العسكرية والاقتصادية والمعنوية للدول الأوروبية كافة. فبأي منطق تدعو، كما جاء في لسان الممثل الأعلى لشؤونها الدبلوماسية، إلى خوض «معركة من أجل الحرية والديمقراطية»، ضدّ مجموعة دولية تمثّل نصف سكان الكرة الأرضية تقريباً؟!
إن هذه التصريحات لا تعكس سوى عقلية بالية عفَّى عليها الزمن، لا تزال ترى في أوروبا والغرب مركز الكون، وتقسّم العالم إلى معسكرين؛ أحدهما ديمقراطي متحضر وتقدمي، والآخر سلطوي همجي متخلف. وهي عقلية تتجاهل الأزمات العميقة التي تعصف بكثير من الدول الأوروبية، من بطالة وتضخم ومديونية عامة وهجرة غير قانونية وتدهور القدرة التنافسية وصعود اليمين المتطرف، وغير ذلك. كما تتغافل عن التحولات الجسيمة التي يشهدها الجنوب العالمي، فالمصانع في الهند ودول الآسيان تعمل ليل نهار لإنتاج القرطاسية والملابس والأجهزة الإلكترونية والهواتف الذكية، وتصديرها إلى مختلف أسواق العالم. وفي دبي والدوحة وغيرهما من مدن الخليج، أعادت ناطحات السحاب رسم أفق الشرق الأوسط، بينما غدت الرياض أكبر موقع بناء في العالم اليوم. وتسعى الإمارات والسعودية بخطى ثابتة لتصبحا مركزاً إقليمياً بل عالمياً للذكاء الاصطناعي. وفي مصر والمغرب العربي ودول آسيا الوسطى، تنتشر مشاريع البنية التحتية والصناعة انتشار الفطر بعد المطر. أما الصين، فقد قدمت من خلال البث المباشر للاحتفالية المهيبة في ساحة تيانآنمن مشهداً يجسّد تحولاً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتقنياً غير مسبوق يشهده العالم اليوم.
ولم أعثر على كلمات أبلغ مما كتبه ميخائيل نعيمة في وصف «ضفادع الأدب» لتوصيف هذه العقلية: «مصيبة الضفادع، أن الحياة تسير بهم وهم قعود، فيتوهَّمون أن الحياة قاعدة مثلهم».
أما عن قراءتي الشخصية لهذه الاحتفالية المهيبة، فأرى أنها تحمل في طياتها دلالات عميقة تتعلَّق بالماضي كما تتعلق بالمستقبل. فاستذكار التاريخ يستهدف استخلاص العبر وترسيخ الذاكرة المشتركة كرابطة وطنية، وتذكير العالم بأن التضحيات الجسيمة التي قدمها الشعب الصيني خلال الحرب العالمية الثانية لا يجوز طمسها أو تشويهها.
وتجسد الاحتفالية رؤية مستقبلية تقوم على أنَّ عرض القوة العسكرية إنَّما يكون لحفظ السلام. وكمثقف صيني، أفخر بأنَّ بلادي تمتلك جيشاً قوياً وأسلحة متطورة، فالتخلف يعني الإذلال، وهو درس مرير استخلصه الشعب الصيني من مائتي عام من تاريخه الحديث، وتؤكده وقائع السياسة الدولية القاسية. ولكن الأجدر بالفخر أنَّ الصين لم تشن أي حرب على مدى أكثر من أربعين عاماً مضت، وأنَّ شعبها ظلَّ ينعم بالسلام الذي حلم به أجداده. فالصين أمة تقدر السلام وتحرص عليه، وأسلحتها للردع لا للعدوان. والأفضل أن تَصدأ هذه الأسلحة في المستودعات من أن تُستخدم في القتال.
كما ترمز الاحتفالية إلى سعي الصين لبناء نظام دولي أكثر عدلاً وإنصافاً ومساواة، نظام يرفض الهيمنة والعنصرية وشريعة الغاب. وهي رؤى طالما نادت بها شعوب الجنوب العالمي ونخبه الثورية والفكرية. لكن ما شهده العالم في ساحة تيانآنمن من قدرات وإنجازات يضفي على هذه الرؤى مصداقية تتجاوز حدود الشعارات والخطابات.
قد يكون من المبكر اعتبار هذه الاحتفالية نقطةَ تحوّلٍ فاصلة في التاريخ المعاصر، لكنّ المؤكد أنّها تمثل معلماً بارزاً في مسيرة تشكّل عالمٍ متعدد الأقطاب.
