يقدم لنا الكاتب الألماني إلياس كانيتي في كتابه «ضمير الكلام»، الذي كتبنا عن فصل منه في عدد 18/8/25، قراءة معمقة في مذكرات ألبرت شبير، مهندس هتلر الأثير، وصديقه الشخصي، الذي عمل أيضاً وزيراً للتسليح في حكومة هتلر. جاءت المذكرات في 2000 صفحة، وقد كتبها شبير بعد الإفراج عنه 1966، ونشرت 1969. (ترجمت إلى الإنجليزية عام 1970).
من 2000 صفحة، يلتقط كانيتي صفتين متلازمتين عند هتلر: الرغبة بالتفوق، ونشوة التدمير، التي هي شرط للإحساس بالتفوق. لا يمكنك أن تتفوق ما لم تدمر ما تشعر تجاهه بعقدة الدونية.
كان هتلر يحب باريس، ويتمنى زيارتها، وقد حصل ذلك فعلاً. لكنه ظل يحلم بتدميرها لأنها أجمل من برلين.
يقول هتلر لشبير: «إذا جعلنا برلين أجمل من باريس، فلا حاجة لتدميرها، لماذا ندمرها في هذه الحالة؟ من الأفضل أن تبقى قائمة حتى تبدو لا شيء أمام برلين».
يبدي شبير دهشته من هدوء هتلر البالغ أثناء كلامه عن تدمير باريس، «وكأن ذلك أكثر الأمور بديهية في العالم».
وماذا عن لندن؟ يسائل هتلر شبير وصحبه: «هل رأيتم خريطة لندن؟ إنها ضيقة، بحيث تكفي بؤرة حريق واحدة لتدمير المدينة كاملة، كما حدث مرة واحدة قبل مائتي عام».
كان سكان لندن آنذاك ثمانية ملايين نسمة. وهذا هو المطلوب؛ قتل أكبر عدد من الناس، إنه الشرط الأساسي لتغذية نشوة التدمير. وهي نشوة تتطلب تغذية مستمرة، كأي نشوة أخرى عند البشر.
يقول كانيتي عن ذلك: «كان هتلر قد اعتاد على كرة الدمار الشامل لدرجة أنه لم يعد يؤثر فيه. لم يعد الهلع يفاجئه. بدأ بتدمير مدن كاملة عن بكرة أبيها كفكرة في رأسه، وغدت تقليداً جديداً للحرب... إن حدة مجريات الدمار في داخله تجعله يظهر كراء أو نبي، أو كمخلص...» (يقول الوحش الآخر نتنياهو إنه يطبق ما أمرت به التوراة، على طريق تحقيق حلم إسرائيل الكبرى). الطغاة كلهم متشابهون.
من عقدة التفوق، ينمو الشوق إلى الخلود. لم يكن هتلر محظوظاً ليعتمد على التطور العلمي الطبي في عصره في تبديل أعضائه، كما يأمل الآن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الصيني شي جينبينغ للبقاء على الكرسي الساحر مدى الحياة، أو على الأقل 150 عاماً.
سيختار هتلر ما هو متاح: العمارة. وهل يوجد أخلد من الصخر الصلد؟ (نقش صدام حسين اسمه على كل حجارة من أحجار بابل). يقول هتلر لزوجة شبير: «سيشيد لي زوجكم أبنية لم يُبنَ مثلها في الأربعة آلاف سنة الأخيرة». كانت عينه على الأهرامات... كل عمارة تنتصب شاهقة ستمد في عمره سنين إضافية. كان يريد قوس النصر الذي يحلم به في برلين أعلى بمرتين من قوس نصر نابليون في باريس، وسيكون هذا القوس كما يقول لمهندسه الأثير: «نصباً جديراً بقتلانا في الحرب. سينقش في الغرانيت اسم كل فرد من المليون وثمانمائة ألف الذين سقطوا صرعى». كلما ازداد عدد الموتى كان ذلك أفضل! ( أليس هذا لسان حال نتنياهو الآن؟).
كان على هتلر أن يعيش سنوات أخرى ليحقق ذلك... كل عمارة تمنحه سنوات إضافية، كل عمارة هي «الديمومة الخالدة».
يقول لنا كانيتي، نقلاً عن شبير، إن أفضل الكتب لدى هتلر كانت كتب الحرب... والعمارة.
الحرب التي تنتج أكبر عدد من الموتى. هوسه الأكبر هم الموتى، وأولاً أبناء جلدته. وهنا يفند كانيتي الوهم الشائع عن هتلر بأنه كان يحب شعبه، ولذلك أراده أن يكون فوق كل شعوب الأرض. كان في الحقيقة يحب الأموات من الشعب الألماني فقط. أما من لم يموتوا فهم «حثالة».
يقول لشبير: «لقد برهن الشعب (الألماني) على أنه ضعيف... ما سيتبقى بعد هذا الصراع هو بجميع الأحوال حثالة، فقد سقط الخيرون في ساحات المعارك».
خذلته العمارة أيضاً. تجرع ذليلاً مادة السيانيد، من دون أن يرى «مجده» مجسداً في عمارات شاهقة، منتصبة في برلين.
