ترتبط ليبيا وتونس برباط جغرافي، وتاريخي ضارب في الأعماق، ويشترك البلدان في حدود طولها 460 كيلومتراً، وأغلبها ذو طابع صحراوي جاف، ولهذا اشتغل الناس على جانبي الحدود بالتجارة، وحتى التهريب أحياناً، في ظل تجاهل من الطرفين للمساءلة؛ لأنه صُنّف ضمن التجارة «غير النظامية»؛ فالمهرَّب هو مواد غذائية وبضعة لترات وقود (بنزين)، وليس ذا طابع إجرامي كالمخدرات والسلاح، وبالتالي لا يمكن أن تؤثر أحداث هامشية تجري على الحدود في علاقة البلدين، مهما حاول النفخ فيها أصحاب الكير والنفير وبتهويل وتضليل.
من أهم ملاحم التاريخ المشترك بين تونس وليبيا، الذي كُتب بدم التضحيات الوطنية، تلك المعارك التي خاضها المناضلون الليبيون مع المناضلين التونسيين ضد القوات الفرنسية الغازية في بلدة تطاوين التونسية، وقد جرت أحداثها في عام 1915، وشارك فيها المناضلون الليبيون بقوة كبيرة قوامها ألفا مناضل؛ لمؤازرة مناضلي تونس في معركة «أم صويغ»، وحينها اختلط الدم الليبي والتونسي، وهو أغلي وأهم من أكياس كسكسي أو لترات بنزين مهربة بين حدود البلدين.
وتحدث الباحث التونسي محمد ذويب، في كتابه «الفلافة واليوسفية من خلال المصادر الشفوية»، عن أحداث من تاريخ تونس في فترة الاستعمار الفرنسي، والدور الذي لعبته ليبيا في مساعدة المقاومين التونسيين عبر توفير الأسلحة والعتاد، بل ومشاركة مقاومين ليبيين إخوتَهم التونسيين المعارك.
العلاقات الليبية - التونسية في أغلب أوقاتها كانت تتسم بحسن الجوار والمحبة وحتى المصاهرة، وهناك قبائل حدودية أفرادها مقسّمون على جانبي الحدود في البلدين؛ مما يؤكد عمق العلاقات، التي وإن كانت تأثرت ببعض الظروف السياسية من حين لآخر إلا إنها في أغلب أوقاتها كانت جيدة.
الأخطاء الإدارية وحتى السياسية والقضائية بين البلدين من الممكن معالجتها عبر قنوات مخصصة لها، فالعلاقة بين البلدين ليست مقطوعة ولا هما في حالة حرب حتى تصعب معالجة ما يقع من أخطاء تغضب البعض من الشعبين في ليبيا وتونس، كما حدث في حبس مواطن ليبي اتُّهم بتهريب سميد (كسكسي)غذائي، قال إنه كان لمناسبة اجتماعية عنده، ومع آخرين توانسة متهمين بتهريب وقود من ليبيا لرخص ثمنه في ليبيا وغلائه في تونس.
فترة «الربيع العربي» في البلدين لم تكن إيجابية على الطرفين، وتسببت في حالة من التوتر، خصوصاً خلال حكم «حركة النهضة»، وكانت مؤذية لليبيا، وأيضاً كانت مؤذية لتونس وأبناء تونس، فقد كانت «حركة النهضة» تجند الشباب التونسي للقتال في ليبيا وسوريا كأنهم بنادق تحركها «الحركة» كما تشاء. وهذه الحقبة المظلمة كانت وبالاً على البلدين وظالمة لهما، وتحمل وزرها «حركة النهضة»؛ وهي «إخوان تونس»، وأيضاً شركاؤهم «إخوان ليبيا» الذين كانوا يستقبلون المقاتلين على الجبهتين، الذين كانوا يدرَّبون على السلاح ويزوَّدون به، وهو ما ارتد على تونس في «اعتداء بن قردان» سنة 2016 الذي نفذه مسلحون تلقوا تدريبهم في غرب ليبيا حيث تسيطر الميليشيات برعاية وحماية دولية للأسف.
حقبة حكم «النهضة»، وحكم «الإخوان» في ليبيا، انتهت، وقد كانت ضرراً على البلدين، ولا يحمل وزرها أبناء الشعبين الليبي والتونسي؛ لأنهم ضحية لتلك السياسات الفئوية الحزبية الضالة التي كانت تنتهجها جماعة «الإخوان» الضالة في البلدين؛ حيث أقامت حكومة الترويكا، بقيادة «حزب النهضة»، علاقات سياسية مع «المجلس الوطني الليبي» (السابق)، وكانت تراهن على صعود الإسلاميين في ليبيا وتعدّهم امتداداً لجماعة «الإخوان» العابرة للحدود.
وفي زمن اختطاف ليبيا وتونس ببداية «الربيع العربي»، ارتبط في ليبيا سكان كهوف تورابورا سابقاً بزعماء «حركة النهضة»، ومنهم راشد الغنوشي الذي كان عراب الفوضى في ليبيا وتونس باسم الجماعة و«حركة النهضة»؛ مما تسبب في حالة قطيعة بعد انتهاء حكم الإسلاميين في البلدين وتراجع سطوتهما.
اليوم انتهت «حركة النهضة»، وانتهى حكم «إخوان ليبيا» على أغلب البلاد، وأعتقد أنه حان الوقت لعلاج ما أفسدته «النهضة» ورموزها وما أفسده «إخوان ليبيا» في البلدين؛ اللذين جمعتهما علاقة طيبة لآلاف السنين، ولا يمكن أن تفسدها سياسات بضع سنين عجاف مرت على البلدين الجارين.
ليبيا وتونس تربطهما علاقات ضاربة في عمق التاريخ، ومن قبل الإمبراطورية القرطاجية، وبالتالي لا يمكن أن تُهزم هذه العلاقات بمجرد توترات أو مشاحنات على الحدود تلقى تهويلاً وتضخيماً من مرضى الإعلام الفاسد أو من محبي الفوضى، فالتاريخ الطويل من العلاقات الطيبة بين ليبيا وتونس هو المنتصر في نهاية المطاف، وليس أكياس الكسكسي أو لترات بنزين عبرت الحدود من دون تأشيرة.