سوريا اليوم مختبر حي لتحديد المسافة بين عالم الأفكار وبين الوقائع اليومية. وقد اعتدنا على سماع من يعيب على أهل الفكر انشغالهم بالتنظير بدل الانخراط في الجدالات اليومية. بل رأيت من يساوي بين كلمة «تنظير» وعبارة «غير مفيد». إن شيوع مفهوم كهذا يكشف عن عيب خطير في الثقافة العامة، فالتنظير قرين للفكر العميق الحي المتجدد.
بين المسائل المثيرة للتأمل في المختبر السوري، مسألة العصبية، أي النواة الصلبة التي تمثل جوهر النظام السياسي. قد تتمثل هذه النواة في الجيش، أو في القبيلة، أو الطائفة، أو الحزب الحاكم، أو المجموعة القومية التي ينتمي إليها الحاكمون.
هذه مسألة معروفة منذ القدم. وتعرَّف العرب إليها منذ أن كانت السلطة ومصادر القوة محصورة في قبيلة أو حِلف قبلي. ثم أتى عبد الرحمن بن خلدون، فوضع تصويراً نظرياً لهذه الممارسة التاريخية. وأظنه بالغ شيئاً ما في تصوير الدور الذي تلعبه النواة الصلبة أو القاعدة الاجتماعية، حين قرر أن بقاء الدولة رهن بتلك العصبية. فإذا ضعفت تقلصت قوة الدولة وسلطانها حتى تؤول إلى الأفول.
ببساطة، رأى ابن خلدون أن استقرار الحكم مشروط باحتكار مصادر القوة من جانب فئة محددة، تصونها كما يستأثر المقاتل بغنيمته. قد يكون صاحب السلطة قبيلة أو طائفة أو حزباً سياسياً أو آيديولوجياً أو مجموعة عرقية، أو شيئاً مماثلاً. ثم يقرر ابن خلدون أن هذا النوع من التنظيم السياسي قصير العمر، حسب منطق الأمور، وأن أفول الدولة راجع إلى انتقالها من جيل إلى جيل. فالجيل الأول يتألف عادة من الأقوياء والأذكياء الحريصين على صناعة القوة، وإعادة إنتاج مصادرها. ثم تأتي أجيال اعتادت رغد العيش وسهولة الكسب، فلا تجهد نفسها في كسب ولا حفاظ؛ بل تأخذ السلطة من دون جهد، فتفرط في سلطانها، بسبب قلة الفهم، أو قلة التدبير، أو الرغبة في السلامة.
تعكس رؤية ابن خلدون هذه نمطاً من الثقافة السياسية، يتعامل مع السلطة السياسية كغنيمة في يد القابض على زمامها. والواضح أن هذا الفهم شائع في العالم كله، في الماضي والحاضر؛ لكن التحولات العلمية والاقتصادية التي شهدتها أوروبا منذ القرن التاسع عشر، أثمرت عن تغيير هذا التصور، باتجاه جعل السلطة السياسية وكيلاً للمواطنين، وليس ممثلاً للطبقة أو الحزب أو الجماعة التي ينتمي إليها أهل الحكم.
السر وراء هذا التحول ثقافي في المقام الأول؛ حيث استقر فهم جديد ينظر للوطن كملكية مشتركة لجميع أبنائه؛ بلا فرق بين صغير وكبير أو غني وفقير. وتبعاً لهذا التحول، قيل إن الذي يمسك زمام الأمور هو الشخص الذي يمثل المواطنين، ويدير مصالحهم باختيارهم، فهو يعمل لهم، وليس سيداً فوقهم أو جباراً يتحكم في مصائرهم.هذه علامة فارقة في تاريخ البشرية، تمايز عندها ما نعرفه اليوم باسم «الدولة الحديثة» عن «الدولة القديمة»؛ سواء كانت إمارة قبلية أو إمبراطورية.
في الدول القديمة، لم يكن الحاكم مسؤولاً أمام أحد. وليس من واجباته أن يخبر الناس عما يفعل، أو يطلب موافقتهم على سياساته. بخلاف الدولة الحديثة التي تطلب من الوزراء وغيرهم تقديم «كشف حساب» للجهات الرقابية أو التشريعية أو للمجتمع. وبهذا لم تعد السلطة مطلقة؛ بل مقيدة بالقانون وبرأي ذوي الاختصاص، فضلاً عن الهيئات الرقابية والتشريعية.
ما الذي نتوقعه في سوريا: استمرار الدولة القديمة التي حكمت بالاعتماد على الجيش والحزب والطائفة، أم دولة حديثة تستمد قوتها من مشاركة جمهور الناس ورضاهم، بغض النظر عن أصولهم الدينية والعِرقية وتصنيفهم الاجتماعي؟ سياسة تنطلق من كون جميع الناس مالكين لبلدهم، وبالتالي شركاء في إدارة أمره، أم سياسة تعتبر نفسها ممثلاً لـ«أهل الحق»، أي الشريحة الاجتماعية التي تنتمي إليها وتمثل مصالحها، من دون بقية أهل البلد؟ هذا موضوع اختبار جدِّي للعهد السوري الجديد.