بندر بن عبد الرحمن بن معمر
كاتب وباحث سعودي مهتم بالتاريخ، له مؤلفات مطبوعة ومقالات وبحوث منشورة. وهو أيضًا رجل أعمال وعضو مجلس إدارة عدد من الشركات، ومستشار لعدة جهات وهيئات.
TT

السعودية والطريق إلى كأس العالم

استمع إلى المقالة

يجد الباحث في تاريخ الملك عبد العزيز، أن المؤسس - وفي زمن مبكر من عمر مملكته - أولى اهتمامه بكل مؤسسات الدولة وقطاعاتها؛ بما في ذلك الرياضة التي شجعها ورعاها وكان يحضر فعالياتها ومسابقاتها، ومن ذلك حضوره في الظهران مباراة بطولة في كرة القدم بين فريقين من فرق رابطة موظفي شركة «أرامكو» عام 1947، واستمر الاهتمام بالرياضة عموماً وكرة القدم خصوصاً من قبل قادة المملكة العربية السعودية. غير أن السعوديين استيقظوا على تغير غير متوقع في مشهدهم الرياضي، وإن كان آتى ضمن تحول في المشهد العام إثر تولي الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم، ومع إعلان رؤية 2030 في عام 2016، تضمنت الرؤية مبادرات لنشر الرياضة وتعزيز ممارستها وتطوير منظومتها وتحقيق التميز إقليمياً وقارياً وعالمياً، وتزامن ذلك مع تحويل الرئاسة العامة لرعاية الشباب إلى الهيئة العامة للرياضة لتركز على تحقيق مستهدفات الرؤية، ومنها تحويل البلاد إلى مركز رياضي عالمي. كان الأمير عبد الله بن مساعد أول رئيس لهيئة الرياضة، وفي عام 2020، صدر أمر ملكي بتحويل الهيئة إلى وزارة وتعيين الأمير عبد العزيز بن تركي الفيصل وزيراً لها. هذه التحولات أسهمت في هيكلة قطاع الرياضة وتطوير كياناته ومؤسساته وبناه التحتية بما يعزز مكانة المملكة عالمياً، ويسهم في النمو الاقتصادي ويحول الرياضة إلى صناعة واستثمار، وأدت إلى استضافة وتنظيم عشرات الفعاليات الدولية الكبرى في مختلف الرياضات. خلال الأعوام الماضية، استثمرت الحكومة السعودية مئات الملايين في الرياضة، ما أحدث تغييراً جذرياً في المشهد الرياضي عموماً، وكرة القدم خصوصاً.

وعندما ترشحت المملكة لاستضافة كأس العالم تضمن ملف الترشح: إنشاء ملاعب حديثة ومستدامة عددها 15 ملعباً مقترحاً لإقامة المباريات؛ منها 8 في مدينة الرياض، وبمقارنة عدد الملاعب الكبرى في مدينة واحدة مع مثيلاتها في المدن العالمية ذات البنى التحتية المتطورة لكرة القدم، يعدّ هذا الرقم كبيراً، وقد يؤسس لتكون الرياض وجهة لهذه الرياضة على المستوى العالمي. إضافة إلى 134 منشأة تدريب، مع توفر 230 ألف وحدة فندقية في المدن الخمس المستضيفة (الرياض وجدة ونيوم والخبر وأبها)، والمدن العشر المساعدة (المدينة المنورة والطائف والباحة وجازان والعلا وتبوك وبريدة والأحساء وحائل وأملج)، كما يشمل ذلك تطوير شبكات النقل والمرافق وتوسعة المطارات (في المملكة 16 مطاراً دولياً)، وتحسين منظومة النقل العام. لهذا كله وغيره حصل الملف السعودي على تقييم (419.8) من (500)، وهو أعلى تقييم فني في تاريخ الاتحاد الدولي لكرة القدم. وتعكس ذلك جودة البنى التحتية، والقدرات التنظيمية، والالتزام والرؤية الطموح التي تتبناها القيادة السعودية التي حظي الملف بدعمها لتقديم نسخة استثنائية من كأس العالم.

هذه الثقة بتنظيم النسخة الأكبر في تاريخ البطولة التي تستضيفها دولة واحدة ويشارك فيها 48 منتخباً لأول مرة، والالتزام بتحقيق تجربة فريدة للمشاركين والجمهور على حد سواء، يعكسان القدرات التنظيمية السعودية والإمكانات العالية والخبرات المتراكمة التي اكتسبتها، فخلال الأعوام العشرة الماضية استطاعت، وبكل اقتدار ونجاح، تنظيم مئات الفعاليات والمناسبات الكبرى؛ بدءاً من مؤتمرات القمم المختلفة، مروراً بباقي المؤتمرات والمنتديات والمعارض والمهرجانات وغيرها من الفعاليات السياحية والرياضية والترفيهية والثقافية. ويبرز هنا تساؤل عن الفوائد والعوائد التي ستجنيها السعودية من تنظيم كأس العالم تحديداً، خصوصاً أنها تتطلب استثمارات تقدر بـ26.6 مليار دولار (100 مليار ريال).

فهذا الإنفاق سيوجه لإنشاء المنشآت الرياضية الجديدة وإعادة تأهيل القائمة والاستثمار في تطوير وبناء الوحدات الفندقية وغيرها من المرافق. كما سيسرع في استكمال المشروعات التي يجري تنفيذها، مما قد يتطلب زيادة الإنفاق ليصل إجمالي الاستثمارات إلى نحو 50 مليار دولار (187.5 مليار ريال) وقد يزيد، الأمر الذي سيحفز قطاعات المقاولات والبناء والتشييد لاستكمال المشروعات الجاري تنفيذها وتطوير الملاعب، والبنية التحتية، والمرافق السياحية، كما سيحفز قطاعات أخرى مثل النقل والخدمات اللوجيستية وغيرها، ويولد وظائف وفرص عمل جديدة للمواطنين في مجالات كثيرة. هذا عدا انعكاسه على تحسين البنية التحتية في المدن الـ15 المستضيفة والمساعدة، مما سيعزز من قدرة المناطق التي تقع فيها تلك المدن على الجذب السياحي واستدامة عوائدها الاقتصادية، خصوصاً أن توزيعها الجغرافي اختير بعناية لتعم أرجاء المملكة. كما يساعد في تحقيق كثير من مستهدفات رؤية المملكة 2030، ويحقق استدامة مشروعات قطاعات الرياضة والسياحة والترفيه، مما سينمي تلك القطاعات ويعزز صورة المملكة العربية السعودية دولياً وقوتها الناعمة ويروج لها وجهة عالمية، من خلال تقديم ثقافتها وضيافتها وقيمها الأصيلة، إضافة إلى تقديم إمكاناتها الاقتصادية وحجم أسواقها وفرص الاستثمار فيها، مما يساعد في جذب مزيد من الاستثمارات الدولية.

أما العوائد المباشرة، فتشير التقديرات الأولية إلى أن هذه الفعالية ستجذب نحو 4 ملايين سائح، وسيسهم إنفاقهم في قطاعات النقل والإيواء والمطاعم والتسوق والترفيه، مع العوائد الأخرى في ضخ أكثر من 20 مليار دولار (75 مليار ريال) بقنوات الاقتصاد السعودي. كل ذلك سيرفع مساهمة الأنشطة غير النفطية في الناتج المحلي الإجمالي.

إن الاستضافة السعودية لكأس العالم 2034 لن تكون تنظيم بطولة رياضية عالمية فحسب؛ بل تاريخ يُكتب وحكايات تروى عن قصة النجاح الأعظم في القرن الحادي والعشرين (سعودية المستقبل)، فهذا التنظيم في تقديري ليس غاية الطموح وإنما منصة انطلاق لاستقطاب فعاليات رياضية عالمية، مما سيعزز النمو السياحي واستدامة العوائد الاقتصادية ويدعم تنافسية المدن السعودية المستضيفة.

يصعب حصر كل التفاصيل، لكن المؤكد أنه استثمار للمستقبل لا تقاس عوائده بالأرقام فقط، كما يأتي في سياق الرؤية السعودية؛ ليس لازدهار المملكة العربية السعودية فحسب؛ بل لاستقرار المنطقة ونماء دولها ورخاء شعوبها، وذلك ضمن الأهداف التي يعمل على تحقيقها الأمير محمد بن سلمان، منفّذاً توجيهات والده الملك سلمان، ومستلهماً تاريخ جده الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن.