أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا
هذَا بيتٌ للشَّاعر مُحمَّدٍ بن يسير وقيلَ للشَّاعرِ مُحمَّدٍ بن حَازمٍ البَاهِلِيّ، وهو جزءٌ من أبيَاتٍ جَمِيلَةٍ، جَلِيلَةٍ، في فَضِيلَةِ الصَّبْرِ.
وليسَ في سَجَايَا الإنسَانِ سَجِيَّةً مثلَ الصَّبرِ، فَلَا يُمكِنُ تَأسِيسُ عَمَلٍ ذِي بَالٍ، مِن دُونِ التَّزيُّنِ بِالصَّبْرِ.
ولَا تَستغْرِبْ إذًا أيُّهَا القَارئُ الكَرِيمُ، أنْ يأتِيَ ذكرُ الصَّبرِ في القرآنِ الكَريم، أكْثرَ من أيّ خُلقٍ أو سَجِيَّةٍ غَيره، إذْ وَردتْ مَادَةُ (صَبَرَ) فِي كِتَابِ الله (103) مَرَّاتٍ، 41 مَرةً منهَا بصيغةِ الاسْمِ، كَقَولِهِ تَعَالَى: {واستعينُوا بالصَّبرِ والصَّلَاة}، وفِي 62 مرةً منهَا بِصيغَةِ الفِعلِ، كَقَولِهِ سُبْحَانَه: {يَا أيُّهَا الذينَ آمَنُوا اصبرُوا وصَابِرُوا وَرَابطُوا}.
قالَ الإمامُ أحمدُ بنُ حَنبل: «الصَّبرُ واجبٌ بإجماعٍ الأمَّة. وهو نصفُ الإيمَانِ؛ فإنَّ الإيمانَ نصفانِ: نِصفُ صبرٍ، ونِصفُ شكر».
لمَّا فَقدَ نَبِيُّ اللهِ يَعقوبُ ابنَه نَبِيَّ اللهِ يُوسفَ، حَزِنَ علَى فقدِه أَشدَّ الحُزنِ، وبكَى عَليهِ حتَى «... ابيضتْ عيناهُ من الحُزنِ فَهو كَظِيم»، وابيضَاضُ العَينِ هو العَمَى، فكتبَ يُوسُفُ فِي جَوَابِ يَعْقُوب عليهمَا السَّلامُ: «إن آباءَك صَبَرُوا فظفروا فاصبر كَمَا صَبَرُوا تظفر كَمَا ظفروا».
فالصَّبرُ صعبٌ لكنَّ نتيجتَه تخفّفُ كلَّ صُعوبةٍ، ونتيجةُ الصَّبرِ الظَّفر.
في بيتِ الشّعرِ الآنفِ، أكَّدَ الشَّاعرُ أنَّ الصَّابرَ خَلِيقٌ (أي جديرٌ) بأنْ يَحظَى بِحَاجتِهِ، ويَحصُلَ عليهَا.
أَخْلِقْ بِذِي الصَّبْرِ أَنْ يَحْظَى بِحَاجَتِهِ وَمُدْمِنِ الْقَرْعِ لِلأَبْوَابِ أَنْ يَلِجَا
صيغةُ تعجبٍ. فالشَّاعِر هنَا يَستعظِمُ هذَا الفِعْلَ أو العَمَل. يريدُ: مَا أجدرَ صَاحبَ الصَّبرِ بنيلِ طلبِه.
مُدْمِن: أيْ أخلقْ بِمدمنِ: مداومٌ على الفعلِ بكَثافةٍ مُتواصِلةٍ وَمُمتَدَّة.
قَرعَ: طَرقَ. قَرعَ البَابَ، دَقَّهُ وطَلبَ فتحَهُ ممَّن هو خلفَ البَاب.
يَلِجُ: من وَلَجَ: دَخَل.
فَمنْ لَا يملُّ مِنْ قَرعِ البَابِ، حَقيقٌ بأنْ يُفتحَ له، وأنْ يَدخُلَ، ولو طالَ الوَقتُ عَليهِ وهو يَقرعُ البَابَ.
والمُراد: أنَّ القَارعَ إن لمْ يَمَلَّ ولم ييأس منْ طُولِ قَرعِه، فصبرَ علَى أدَاءِ مَا يَجبُ فِعلُه، جَاءَ جَزاءُ صَبرِه مثمراً.
وقَبلَ بيتِ الشّعرِ المَذكُورِ، بيتٌ يَشرحُ المَعنَى بِجَلَاءٍ، وهو قولُه:
لا تيأسَنْ وإن طَالتْ مُطالبةٌ إذَا استعنتَ بصبرٍ أن ترَى فَرَجَا
يُخاطبُ الشَّاعرُ من يسمعُ أو يقرأ بيتَه، ويطالبُه بعدمِ اليأس، ولو طالَ الوقتُ، ويدعوهُ أن يَستعينَ بالصَّبرِ، ويبشّرُه إذا لمْ يَتسرَّبْ إليهِ اليَأسُ، وجَعلَ الصَّبرَ معيناً له، بأنَّه سيرَى فَرجاً بتحقُّقِ ما يريدُ، ثم يخبرُه بأنَّ صاحبَ الصَّبرَ جديرٌ بنيلِ حاجتِه، ومُدمنُ قرعُ الأبوابِ جديرٌ بأنْ يلجَ للدَّاخلِ.
وأخبرَ الشَّاعر بنتيجةِ الدُّخول، مُضمراً ما قبلَها، وهي فتحُ الأبوابِ لمدمنِ قرعِها، وذلك بحديثِه عن وُلوجِ مدمنِ قرعِ الأبوابِ، والولوجُ لا يحدثُ إلَّا بفتحِ البَاب.