تركي الدخيل
TT

إنَّ الكِرَامَ قليلُ

استمع إلى المقالة

مِثل كَثيرٍ مِنْ أبيَاتِ الشّعْرِ العَرَبيَّةِ، هناكَ خلافٌ في نِسْبَةِ هذَا البَيتِ إلَى شَاعِرٍ مُعَيَّن، فثمةَ من ينسبُه إلَى الشَّاعِرِ الجَاهِلِيّ السَّمَوْأَلِ بنِ عاديَا اليَهُودِيّ، وهناكَ من ينسبُه إلَى الشَّاعِرِ الأُمَوِيّ عَبدِ المَلِكِ بنِ عَبدِ الرَّحِيمِ الحَارِثِيّ.

وهوَ بَيتٌ مِنْ أشْهَرِ أبْيَاتِ الفَخْرِ، وأجْمَلِهَا، وأجلِّهَا، وفِيهِ يَقولُ الشَّاعِرُ:

تُعيِّرُنَا أنَّا قَلِيلٌ عَدِيدُنَا

فقُلتُ لهَا: إنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ

تَقومُ فكرةُ البَيْتِ الرَّئيسَةُ علَى أنَّ الفَتاةَ الَّتِي حَدَثَنَا الشَّاعِرُ عَنْهَا، عَيَّرَتهُ بِقِلَّةِ عَدَدِ قَوْمَهِ، سَائرةً علَى الفِكْرَةِ السَّائِدَةِ، الَّتِي تَربِطُ القِيمةَ بِالكثْرَةِ وحدَهَا، لكنَّ الشَّاعِرَ ردَّ عليهَا مُعتَرِفاً بأنَّهُمْ قِلَّةٌ، مُبيناً لَهَا أنَّ الكَثرةَ لَيستْ مَمْدُوحَةً دوماً، وأنَّ القِيمةَ تكونُ بالقِلَّةِ فِي الغَالِبِ، فقالَ لَهَا: «إنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ».

> تُعَيِّرُنَا: تَعَايَرَ القَوْمُ: إذَا ذَكَرُوا العَارَ بَينَهم. وَردَ فِي المَعَاجِم: «عيَّره» بمعنَى نَسبَهُ إلَى العَارِ، وقَبَّحَ عليهِ فِعلَه، ومِنْ ذلكَ قولُ ابنِ المُقَفَّعِ: «يكونُ كَالأعمَى الّذي يعيّرُ الأعمَى بِعَمَاه» («معجمُ الصَّوابِ اللغَوِي»، أحمد مختار عمر).

> قَلِيلٌ: ضِدُّ كَثيرٍ، وأصلُهُ مِنْ قَلَّ. تقولُ قَلَّ الشَّيءُ فَهوَ قليلٌ، والقُلُّ: القَلِيلُ.

> عَدِيدُنَا: العَدِيدُ: الكَثرةُ. ومَا أَكثَرَ عديدَ بنِي فُلانٍ وعَدَدَهُمْ!

> الكِرَام: جمعُ كريمٍ. والكَرَمُ له معانٍ كثيرة منها: الكرم: شَرفُ الرَّجلِ. رجل كريمٌ وقوم كِرامٌ. (العين)، الخليل بن أحمد.

وفِي المَعنَى الّذي يؤكّدُ أنَّ القليلَ قد يكونُ خَيراً من الكَثِيرِ، يَقولُ أبُو الطَّيّبِ المُتَنَبّي:

فَإِنَّ قَلِيلَ الحُبِّ بِالعَقْلِ صَالِحٌ وإِنَّ كَثِيرَ الحُبِّ بِالجَهْلِ فَاسِدُوَجَاءَتِ الكَثْرةُ فِي القُرآنِ الكَريمِ مَذمُومةً في مُعظَمِ ذِكرِهَا، كَمَا جاءَتِ القِلَّةُ مَمْدوحَةً فِي الغَالِبِ، فَمِنْ ذَلك:

قولُه تَعَالَى: «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً»، وقالَ تعالَى: «وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ»، وقولُه سُبحانَه: «بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ»، وقولُه تَباركَ وتَعَالَى: «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ»، «وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُون»، وقَالَ تعالَى: «وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ».

وفي حديث النبي ﷺ أنَّه قالَ: «يُوشكُ أنْ تَتداعَى عَليكُمُ الأمَمُ كَمَا تَتَدَاعَى الأَكَلَةُ علَى قَصْعَتِهَا».

قَالُوا: أمِنْ قِلَّةٍ نَحنُ يَا رَسول اللهِ؟

قَالَ: «لَا. أنتمْ يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكُمْ غثاءٌ كَغثاءِ السَّيلِ».

وقَالَ: «النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً». أي أنَّ المَرضِي من النَّاسِ نَادرٌ، كَندرةِ النَّجِيبِ منَ الإِبلِ القوي الذي يَتحمَّلُ الأسفارَ والأحْمالَ.

وفِي عجزِ البيتِ، قالَ:

فقُلتُ لها: إنَّ الكِرَامَ قَلِيلُ

يَعنِي أنَّ الكِرَامَ يَقِلُّونَ، وهو اعترافٌ بِقِلَّةِ العَدَدِ، لا بِقِلَّةِ القَدْرِ والقيمة.

وبعدَ بيتِ القَصيدِ، أوردَ الشَّاعرُ بيتينِ جميلينِ، ضمنَ فخرِه، وَرَدّهِ علَى مَا عُيِّرَ به، يقولُ:

وَمَا قَلَّ مَنْ كَانَتْ بَقَايَاهُ مِثْلَنَا

شَبَابٌ تَسَامَى لِلعُلا وَكُهُولُ

وَمَا ضَرَّنَا أنَّا قَلِيلٌ وَجَارُنَا

عَزِيزٌ وَجَارُ الأَكْثَرِينَ ذَلِيلُ