ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

بورخيس بين السيدات

استمع إلى المقالة

بين عامي 1936 و1939 كان خورخي لويس بورخيس مشرفاً على قسم الكتب والمؤلفين الأجانب في المجلة الأسبوعية «البيت» التي كانت تستهدف بشكل خاص ربّات البيوت والعائلات. ومنذ سنوات قام أمير رودريغيز وانريكي ساسيريو بتجميع عدد كبير من المقالات التي وضعها بورخيس خلال تلك الفترة في كتاب صدر عن دار «توسكيتس» تحت عنوان «نصوص أسيرة... بحوث ومقالات قصيرة في (البيت)».

لم أكن على علم بوجود هذا الكتاب الذي وصلني مؤخراً من جزيرة مايوركا، إذ كانت بدايات بورخيس الأدبية بعد أن كان أنهى دراسته الثانوية في جنيف. وفي مايوركا وضع أشعاره الأولى، وارتبط بمجموعة من الشعراء والكتّاب الشباب في الجزيرة، وانخرط في نشاط فكري كثيف لم يكن ينذر يومها بالمسار الذي سلكته أعماله اللاحقة. لست أدري ما الذي حملني إلى الاعتقاد بأن تلك النصوص والمقالات التي نشرها في «البيت»، كمثل كتاباته الأولى في الجزيرة، هي مجرد شهادات تاريخية ممهدة لما عقبها من أعمال عبقرية.

لكن المفاجأة كانت كبيرةً، إذ تبيّن لي أنها أكثر من ذلك بكثير، ولا أعرف إذا كان اختيار النصوص، الذي يبدو أن ساسيريو هو الذي قام به لأن رودريغيز تُوفي قبل صدور الكتاب، قد استثنى تلك التي ليست على جانب من الأهمية والقيمة الأدبية. تكشف هذه النصوص عن كاتب يملك أسلوباً مميزاً، واسع الثقافة، وصاحب وجهة نظر تسمح له بإبداء آراء سديدة ومتمايزة في الشعر والرواية والفلسفة والتاريخ والدين والأدب الكلاسيكي والحديث والكتب الصادرة بلغات مختلفة، وأن يتناول كل أسبوع الأحداث الأدبية العالمية برصانة وأناقة وسعة اطلاع، على غرار ما كانت تقوم به يومذاك أبرز المنشورات الفكرية في باريس ولندن ونيويورك. لا شك في أن صدور تلك النصوص على صفحات مجلة أرجنتينية مخصصة لربّات البيوت هو دليل على أصالة بورخيس وعلى المستوى الثقافي الرفيع الذي كان سائداً يومها في الأرجنتين.

من غرائب تلك النصوص أن بورخيس كان قد قرأ الأعمال التي كتب عنها من ألفها إلى يائها، مثل الترجمة الطويلة التي وضعها السير ريتشارد بورتون لكتاب «ألف ليلة وليلة»، والبحوث التي كتبها السير جيمس فريزر حول الميثولوجيا القديمة، أو أعمال فولكنر وهمنغواي وهاكسلي وفيرجينيا وولف، إذ كانت تعليقاته وتحليلاته تعكس معرفة وافية وعميقة بتلك الأعمال. وعندما كان يصادف ظلمة في كتاب يعصى عليه اختراقها، كما حصل له مع «Finnegans Wake» (يقظة فينيغان) لجيمس جويس، لا يتردد في الاعتراف بذلك، ويشرح الأسباب المحتملة لذلك الإخفاق. ولم أقع على تعليق واحد يوحي بأنه ثمرة الاستخفاف، أو عدم إعطاء الأهمية لعمل كان يعرف أنه عابر وسطحي ومحكوم بالنسيان. حتى الملاحظات الصغيرة التي كانت ترد ضمن الحواشي، فيها الكثير من المتعة والفطنة والسخرية.

خلال الفترة التي كان يتعاون مع «البيت» صدر لبورخيس كتاب مهم جداً «تاريخ العار العالمي»، لكن لم يكن قد وضع بعد أيّاً من رواياته وأشعاره وبحوثه الكبرى التي حملته إلى الشهرة الواسعة، رغم أنه كان بدأ يظهر موهبة استثنائية في إبداء الرأي في الأعمال التي قرأها، وفي رؤيته للعالم، وللثقافة، وكتابة القصص الخيالية. أبرز ما في تلك النصوص ما تنضح به من فضول عالمي يوجه مطالعاته التي كانت تشمل قراءة بول فاليري بالفرنسية، وبينيديتّو كروتشي بالإيطالية، والفرد دوبلين بالألمانية، وتي إس إليوت بالإنجليزية. ثم ذلك الوضوح، وقوة الإقناع في أسلوبه الذي تكاد كل عبارة فيه تحمل فكرة، ودأبه المتواصل على الاكتفاء بما هو ضروري لما يريد أن يقوله. يحكى أن رايموندو ليدا كان يردد على طلابه في جامعة هارفارد «إن النعوت وجدت لغرض عدم استعمالها». بورخيس كان مشهوراً بنعوته لأنه لم يفرط أبداً في استخدامها، بل كانت تنفجر فجأة في جمله وتظهر بشكل مدهش، تكمّل الفكرة، أو تفتح نافذة على الدعابة والسخرية، أو لتقلب رأساً على عقب مسار النص والوجهة المرتقبة. تعليقات وسير مختصرة مسكوبة في قالب من الدقة والإيجاز والاكتفاء الذاتي، هي في مستوى أفضل القصائد والروايات.

تكفيه أحياناً جمل قليلة يوجز بها رأيه في كامل أعمال كاتب، مثل صامويل تايلور كولريدج: «حصاده الشعري يملأ أكثر من خمسمائة صفحة لا يدوم منها سوى قصيدة (البحار العجوز) التي تكاد تقارب المعجزة، وما تبقّى لا يستحق القراءة. نفس الشيء يحصل مع أعماله النثرية: حطام من البديهيات الموفقة، والعبارات المبتذلة، والحكم الساذجة، والترهات والانتحال». رأى فيه الكثير من القسوة، وربما بعض الأجحاف، لكن لا شك في أن صاحبه يعرف ماذا يقول، ولماذا.

في بعض السير المختصرة نقع على روائع في التوصيف مثل ما جاء في رسمه للمؤرخ لايتون ستراتشي: «كان مديد القامة، بلا ملامح، يكاد يكون مجرداً، نحيل الوجه يخفيه وراء نظارات تنسدل فوق لحية حاخامية محمرّة». أو في المديح الذي يشفعه بطعنة قاتلة كما جاء بعد إبداء إعجابه برواية «سويس اليهودي» للكاتب ليون فوخواغنير، حيث قال: «هي رواية تاريخية، لكن ليس فيها شيء من التدقيق أو التحقق من المصادر وصحة المعلومات المنقولة».

ليس في هذه المقالات التي كتبها بورخيس أي تنازل لقراء تلك المجلة الذين لم يكونوا متخصصين في الأدب، ولا على درجة من الثقافة تسمح لهم بتقدير الآراء التي كانت تزخر بها. كان يكتب كما لو أنه يتوجه إلى أرقى القراء في العالم، لكن من دون أن يقع في التباهي والغرور. نصوص قصيرة لم يكن بورخيس يتردد لحظة في أن يظهر من خلالها كل ما يختلج في نفسه من ميول وهواجس، وإعجاب دام طوال حياته بمؤلفين واظب على مطالعة أعمالهم مثل شوبنهاور وتشيسترتون وكيبلنغ وإدغار آلان بو وألف ليلة وليلة. وغالباً ما يتناول في ملاحظاته وتعليقاته المواضيع التي تكررت فيما بعد في قصصه وبحوثه وقصائده، مثل الزمن والخلود، فضلاً عن انجذابه الدائم إلى الآداب الشرقية، مثل كتاب «تاريخ ضفة الماء»، وهو أنطولوجيا لقصص خيالية وفولكلورية صينية جمعها ولفرام ايبرهارد، أو «حكاية جنجي» للياباني سيكيبو موراساكي.

«نصوص أسيرة» ترسم لنا صورة رائعة عن الحياة الأدبية خلال ثلاثينات القرن الماضي في العالم الغربي عندما تفجّرت مواهب مثل إليوت وجويس وبريتون وفولكنر ومان، وما رافق تلك الفترة من جدل اجتماعي وسياسي وثقافي فاصل بين حقبتين. ومن المدهش أن أحداً لم يترك شهادة أعمق وأصدق عن تلك الحقبة وما شهدته من نشاط فكري وإبداع أدبي، غير ذلك الكاتب المغمور (حتى ذلك الوقت) في أقاصي المعمورة، على صفحات مجلة ترفيهية مخصصة لكسر رتابة حياة ربّات البيوت.