الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، والداعية فتح الله غولن الذي وافته المنية فى غربته الأميركية المقيم فيها منذ عام 1999، كلاهما يعبران عن حالة صراعية فكرياً ومؤسسياً وحتى مصلحياً، وهي حالة لا تقتصر على تركيا فحسب، بل لها نماذج متكررة في أكثر من بلد عربي وشرق أوسطى وآسيوي.
حالة تنبع من تناقض وتنافر مصالح ومصاير بين الدولة بمؤسساتها ودستورها وقوانينها، وبين جماعة تؤسس لعلاقة مختلفة بين مؤسسها الفكري أو الروحي وخلفه كوادرها وأعضاؤها والمتعاطفون معها، وبين الدولة التي تعيش في طياتها. في بادئ الأمر تبدو هذه الجماعات إضافة إلى حيوية المجتمع؛ تطرح أفكاراً مختلفة حول دور الفرد والجماعة، وعلاقته بالدين والمجتمع، تدعوه إلى قدر من الديناميكية والنشاط المغموس بتفسيرات جاذبة لتغيير واقعه، وصولاً إلى المراتب العليا في الدنيا والآخرة معاً. ويلعب الدين في هذه الجماعات الدور الأكبر في جذب البسطاء والمتعلمين معاً.
فمَن هذا الذي ينكر مبدأ العمل الخيري ليفيد ويستفيد؟ ومَن هذا الذي يرفض أن يكون عنصراً فاعلاً لتغيير مجتمعه لينال رضا الخالق العظيم؟ هكذا تكون الأمور على السطح، أما ما وراءه فثمة مشروع لتغيير كبير يصيب المجتمع والدولة معاً تدريجياً. وهنا تصبح المواجهة حتمية.
حالة الصراع بين الدولة التركية وجماعة غولن، تتشابه مع حالة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وفي أكثر من بلد، كلتاهما مرتبطة بدعوة وداعٍ، وكلتاهما طمحت في تغييرات كبرى تتجاوز الدولة التي نشأت فيها الجماعة، لتصبح حركة عالمية تستهدف تغيير العالم، بعد تغيير المجتمعات الفرعية، وصولاً إلى مرحلة «أستاذية العالم»، وفقاً للمراحل العشر في المنهج الإخواني الذي أسّسه حسن البنا.
في الحالة التركية يوجد أمران بارزان؛ الأول أن حركة «الخدمة» التي أنشأها فتح الله غولن منذ 1970 في إزمير، نشأت وترعرعت في ظل نظام علماني يتصادم بقوة مع الدين، كأحد تجليات «رسائل النور» للداعية الصوفي سعيد النورسي. ومع الانقلاب العسكري في 1980، وجدت الحركة مجالاً أوسع للحركة باعتبارها جماعة إصلاحية تهتم بالبعد التربوي ومواجهة الفقر والتخلف عبر إنشاء المدارس والجامعات، وتهتم بالانتشار في وسط آسيا التي يُنظر إليها كمجال حيوي لتركيا أكثر من أي منطقة أو إقليم آخر.
والأمر الثاني أن الحركة نأت في البداية بنفسها عن السياسة، مما وفر لها مساحة انتشار في ظل دولة ذات دستور علماني بحت، في الوقت ذاته تطور انتشار الحركة ونفوذها داخل مؤسسات الدولة البيروقراطية، مع اهتمام خاص بالقضاء والقطاع الصحي والصناعات الاستهلاكية، كما أنشأت عدداً كبيراً جداً من مؤسسات المجتمع المدني، وهياكل أخرى ذات طابع استثماري يخص أعضاء الحركة وكوادرها فقط.
بالرغم من بداية حركة «الخدمة» كنشاط قومي مجتمعي خالص، فقد انتشرت فروعها في عدد كبير من الدول، لا سيما المدارس الخاصة بها؛ مما جعلها حركة ذات بعد دولي يتجاوز الدولة التركية التي وجدت في مرحلة مبكرة أن هذا الانتشار لحركة «الخدمة»، يعد امتداداً لنفوذها الدولي من دون أن تبذل فيه أي جهد، أو تتحمل فيه أي تكلفة.
داخلياً، مرت علاقة الحركة بالسياسة بمرحلتين؛ الأولى الانفتاح على كل الأحزاب والتيارات الفكرية من دون استثناء؛ مما وفر لها نفوذاً متصاعداً في المجتمع ككل، متسلحة بشعار التسامح مع الأفكار المختلفة أياً كانت التناقضات فيما بينها وبين الأفكار الكبرى لحركة «الخدمة» ذاتها. استمر هذا المسار حتى بداية الألفية الثالثة، والذي بدأ معه تركيز الحركة على دعم حزب العدالة والتنمية الذي أسّسه إردوغان في أغسطس (آب) 2001، مع مجموعة من أعضاء حزب الفضيلة الذي تم حله بقرار من المحكمة الدستورية، والذين اعتبروا أنفسهم تيار التجديد؛ يؤمن بالدستور العلماني السائد، ويعطي أولوية لليبرالية الاقتصادية، مع اهتمام خاص بالعدالة الاجتماعية والشباب والتعليم وقيم الأسرة، ويمتنع عن وصف نفسه بحزب إسلامي، ويؤكد على احترام الخلافات مع الأحزاب الأخرى، ويترك الأمر للانتخابات واختيارات الناخبين.
وعلى مدى عقد كامل حتى 2013، تبلور تناغم كبير بين حركة «الخدمة» وحزب العدالة والتنمية، وفي الانتخابات التي أُجريت خلال هذه المرحلة، لعبت حركة «الخدمة» دوراً كبيراً بأساليب غير مباشرة لدعم مرشحي الحزب الذي فاز بأغلبية أتاحت له تشكيل الحكومة مرات عدة متتالية، ومن ثم تطبيق أفكاره لتغيير المجتمع التركي، وإعادة هيكلة العلاقة بين الجيش والرئاسة والمجتمع والدين، وغير ذلك مما شكّل تطورات مهمة في الحياة السياسية التركية ككل. ويُذكر هنا أن الرئيس إردوغان كانت له علاقة خاصة مع غولن، وهناك الكثير من مقاطع الفيديو التي تسجل مشاركته في جلسات التنوير التي كان يعقدها غولن لأعضائه.
العلاقة الخاصة بين الرئيس إردوغان والداعية غولن، أتاحت لإردوغان بالفعل معرفة حجم تغلغل حركة «الخدمة» في مؤسسات الدولة المختلفة، وحين اندلعت قضية الفساد لبعض المحيطين به من قبل مجموعة قضاة ذوي صلات بالحركة عام 2013، لم يكن هناك مفر من الخصومة الكبرى، وعندها أطلقت الدولة سهامها القاتلة للحركة ومؤسسها وكوادرها وكل تشكيلاتها المجتمعية في الداخل وفي الخارج. الفكرة هنا ولا تنازل عنها؛ فلا تعايش بين مؤسسات دولة يحكمها القانون وتدين بالولاء للمصالح العليا للمجتمع والمقبولة من الجميع، وبين جماعة لا يُعرف الكثير عن قياداتها وهيكلها التنظيمي، والتي تعطي أولوية الولاء للحركة على حساب المصالح والهوية التي يحددها الدستور ويلزم بها الكل، والأكثر من ذلك لها امتدادات خارجية، بعضها على الأقل يمثل خطراً جسيماً لا تهاون معه.