مطالبة سيد قطب بألا تدرّس الفلسفة الإسلامية في كلية أصول الدين بـ«الأزهر»، وبمنع تدريس الفلسفة الغربية في المدارس الثانوية المصرية، وبألا تدرّس الفلسفة الغربية في قسم الفلسفة بالجامعة المصرية إلا بعد السنتين الأوليين على أقل تقدير، هي شاهد من شواهد كثيرة، تبين «أصالة» التطرف الديني عنده في أول كتاب إسلامي ألّفه، وهو كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» في طبعته الأولى، وذلك قبل أن يقرأ في كتب أبي الأعلى المودودي، وفي كتب أبي الحسن الندوي التي اقترض منها أفكاراً بإفراط، وإن كان يقدح قليلاً في تلك «الأصالة» أنه قطم شيئاً منها من كتاب «الإسلام على مفترق الطرق» لمحمد أسد، ومن كتاب «الإسلام والنظام العالمي الجديد» لمولانا محمد علي.
وفي حلبة السباق في التنظير للأصولية الإسلامية في العالم العربي، عليَّ أن أبرز فكرة سبق بها سيد قطب الإسلاميين العرب. ولأسبقيته في هذه الفكرة ولأسبقيات «أصولية» أخرى عليهم، يسوغ لنا أن نسميهم «ذُرية سيد قطب».
الفكرة هي أن سيد قطب قبل أن يجهر في كتابه «العدالة الاجتماعية في الإسلام» في طبعته الأولى، بتلك المطالبة، تحدث عن ضرورة تكوين عقلية مشبعة بالفكرة الإسلامية، فقال: «يجب أن نكوّن فكرة إسلامية في نفوس الأفراد والمجتمعات، بجانب التشريع الإسلامي الذي ينظم الحياة. والثقافة هي الوسيلة الطبيعية لتكوين تلك الفكرة».
هذه الفكرة يسميها تارة الفكرة الكلية للإسلام عن الكون والحياة والإنسان. وقد عاب على «الأزهر» أنه لم يبحث عنها، ولم يعرضها عرضاً كاملاً قوياً بلغة العصر وأسلوبه، موازناً بينها وبين المذاهب الفلسفية الأخرى.
السوري «الإخواني» محمد المبارك، كان قد قرأ «العدالة الاجتماعية في الإسلام» في طبعته الأولى، وقرأ بعده مقالة لأبي الحسن الندوي، نشرها في كتيب صغير عام 1950، كان عنوانه «كيف توجه المعارف في الأقطار الإسلامية». هذه المقالة ليست ككلام سيد قطب العمومي؛ بل تضمنت برنامجاً موجزاً لما تمخضت عنه تلك المادة التدريسية المسماة «الثقافة الإسلامية» في أحد وجوهها.
يقول محمد المبارك -ابن التعليم المدني بدمشق وباريس- عن تاريخ إدخال مادة «الثقافة الإسلامية» في الدراسات الجامعية: «حين أنشئت في جامعة دمشق (الجامعة السورية يومئذ) كلية الشريعة سنة 1954، وكنت أحد أعضاء اللجنة التي وضعت خطة المناهج، اقترحت إدخال هذه المادة في منهج السنة الأولى، لتعطي الطالب منذ البداية الصورة الشاملة للإسلام، قبل أن يدخل في التفصيلات الجزئية لكل مادة من المواد التي تستوعب كل واحدة منها جانباً من جوانب الإسلام، وقبلت اللجنة هذا الاقتراح وأقرَّته، وأخذت منذ ذلك الحين أدرّس هذه المادة فيها».
مما قاله المبارك نستخلص أنه هو أول من نفّذ الفكرة التي دعا سيد قطب إليها بعمومية؛ لكنَّه نَفَّذها في سوريا وليس في مصر. وأنه أول من طبّق برنامج الندوي التعليمي التربوي في بلد عربي. وأن أول جامعة عربية درّست تلك المادة كانت الجامعة السورية -كما كانت تسمى قديماً- وأنه هو أول من درّسها.
العجيب أنه هو الذي سيكون المستدرك على «الأزهر» ما عابه سيد قطب عليه من أنه لم ينهض برسالة «الفكرة الكلية للإسلام»، أو بتعبير آخر: تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في كلياته ومعاهده.
استدركه في فترة حكم من؟ استدركه –وهنا المفارقة والمفاجأة– في فترة حكم جمال عبد الناصر، وكان سيد قطب وقتها لا يزال يقضي مدة الحكم عليه بالسجن.
محمد المبارك في دولة الوحدة بين مصر وسوريا، كان من ضمن المساهمين في كتابة القانون الخاص بتطوير «الأزهر» عام 1961، فأدخل تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في جميع كليات «الأزهر». وأدخل تدريس هذه المادة في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وفي كلية الشريعة بمكة المكرمة، وفي جامعة أم درمان الإسلامية. كما أن له دوراً في إدخال تدريسها في جامعة الملك سعود حين كانت تسمى جامعة الرياض.
وثمة تفصيل صغير يجب ذكره في تاريخ تدريس مادة «الثقافة الإسلامية» في هذه الجامعة، وهو قبل أن تدرس فيها هذه المادة –حسب منظور «الإخوان المسلمين» ومنظور «الجماعة الإسلامية» الهندية الباكستانية– عام 1964. هذا التفصيل هو أنه كانت تدرّس مادة تقوم مقامها اسمها «سماحة الإسلام»، يلقي محاضرات فيها أحمد محمد الحوفي، وهو من أساتذة كلية الآداب القدامى في تلك الجامعة. و«سماحة الإسلام» هو عنوان كتاب أصدره عام 1958.
لكن لأن الحوفي ليس «إخوانياً»، ولا هو متأثر بفكرهم، وكتابه «سماحة الإسلام» يقدم الثقافة الإسلامية من منظور إسلامي– ليبرالي، رأى «الإخوان المسلمون» –خصوصاً في سوريا من الذين كان لهم شأن سياسي في بلادهم– أن يدرِّس هذه المادة أستاذ من عشيرتهم الإخوانية، وبمنظورهم نفسه للثقافة الإسلامية. هذا الأستاذ الذي اختاروه ليدرّس هذه المادة كان عبد الكريم عثمان، وهو سوري إخواني. عبد الكريم عثمان هذا توفي في سن الـ43 عام 1972، في أثناء قضائه إجازته الصيفية في بيروت. وكان ممنوعاً عليه دخول بلاده من منتصف الستينات الميلادية.
نعلم من محمد المبارك أنهم اختلفوا في تسمية هذه المادة التدريسية، ما بين من اختار لها اسم «الحضارة الإسلامية» ومن اختار لها اسم «النظم الإسلامية». ونعلم منه أنه هو من اختار لها اسم «نظام الإسلام».
سيد قطب –كما رأينا– لم يطلق اسماً مختصراً على ما نادى به، مع أن الاسم الدقيق لما نادى به هو «فلسفة الإسلام»؛ لكن لِحسِّه المعادي لـ«الفلسفة الإسلامية» ولـ«فلاسفة الإسلام» أصيب بحالة «أرتكاريا» إزاء استعمال كلمة «فلسفة» لما ينادي به.
ومحمد المبارك لم يذكر في جدلهم حول التسمية، أن ما اختلفوا حول اسمه له اسم راسخ هو «الثقافة الإسلامية»، وهو الاسم الشائع في المنتصف الأول من القرن الماضي في العالم العربي وفي العالم الإسلامي، ربما لأنهم تحفظوا على استعماله، وأراد ألا يعلمنا بذلك. وقد يكون سبب التحفظ علمهم بأن الذين سكّوه وسكّوا اسماً آخر رديفاً له هو «الدراسات الإسلامية»، هم جمهرة من المستشرقين.
الاسم الذي اقترحه محمد المبارك «نظام الإسلام» استُخدم قليلاً وعلى نطاق ضيق. واستُخدم كثيراً وعلى نطاق واسع في الجامعات العربية اسم «ثقافة إسلامية» واسم «دراسات إسلامية». وللحديث بقية.