أكثر الناس يرون السياسة عالماً بلا أخلاق. ثمة أشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. أنا واحد من هؤلاء، وكذا الكثير من الفلاسفة الأخلاقيين وعلماء السياسة وبعض رجالاتها. أما اتفاق الناس على خلو السياسة من الأخلاق، فمرجعه عاملان فيما أظن. أولهما أن السياسة نادٍ مغلق، عضويته حكر للنخبة العليا في المجتمع. أما العامل الآخر فهو أن الموضوع اليومي في مهنة السياسة، هو استعمال مصادر القوة وتوجيه نتائجها، بحسب ما يراه أهل هذه المهنة دون بقية الناس.
قد يقال إن النادي السياسي مفتوح لمن يطرق أبوابه، وليس لكل عابر، وإن السياسة كأي حرفة أخرى، تتطلب مؤهلات ربما لا تتوفر لكل راغب فيها. لكنني أجد أن انغلاق النادي معناه قلة الفرص المتاحة فيه. وأذكر هنا رأي المفكر الإيطالي القديم نيقولو ماكيافيلي، الذي قدمه في سياق تفسيـره لرغبة الناس في الحرية، حيث يقول إن الناس لا يطمعون في السلطة؛ لأنهم يدركون أن «مهنة الحكم» متاحة لعدد محدود جداً من الأفراد، وهم يشكون في أن أحدهم سينال الفرصة، دون عشرات الآلاف من الراغبين في دخول ناديها.
كون النادي السياسي مغلقاً، يعني أن معظم ما يجري بين جدرانه، مكتوم عن عامة الناس. مكتوم قصداً، أو بحكم اختلاف مجالات الاهتمام، وإمكانية الوصول إلى مصادر المعلومات، خصوصاً الحساسة منها. وطالما بقي عمل السياسيين سراً، فسوف يثير الارتياب، لا سيما بالنظر للعامل الآخر، أي كون موضوع عمل السياسي هو تحريك مصادر القوة وثمراتها بين الاتجاهات المختلفة، كما يدير السائق سيارته بين مسار وآخر، أو بين وجهة وأخرى. وكانت العرب تقول فيما مضى إن «المرء عدو ما جهل»، بمعنى انه أقرب إلى تفهم الأشياء التي يعرفها. والتفهم يعني تقبل مبرراتها حتى لو بدت - في ظاهرها - بغيضة أو ثقيلة على النفس.
- لكن يبقى السؤال قائماً: إلى أي حد يلتزم الفاعلون السياسيون بمعايير الأخلاق؟
هذا السؤال ينقسم - بالضرورة - جزأين: الأول ما هو المقصود بالأخلاق، هل هي طرق العمل المطابقة لما يمليه العقل السليم، أم هي - كما هو شائع بين عامة الناس - لين المعاملة والإحسان للناس وصدق القول والترفع عن الصغائر، وأمثال هذه؟
أما الآخر فيتناول موضوع العمل في النادي السياسي، الذي سنسميه اختصاراً «استعمال مصادر القوة»؛ لأن هذا التحديد يستدعي لزوماً السؤال: ما هي مصادر القوة التي نتحدث عنها، ولماذا نستعملها أو نحركها؟
سوف أبدأ بالآخر لأنه يوضح معنى الأول. إن «قانون الندرة» هو المبرر الجوهري لوجود السياسة والحكومة. يقول هذا القانون إن الموارد المتاحة لتسيير حياة الناس محدودة، بينما حاجات الناس متزايدة، ويمكن وصفها باللامحدودة، بمعنى أنها لا تتوقف عند حدٍ ولا تنحصر في إطار. توزيع الموارد المحدودة يعني أن كل فرد من الجمهور سينال حصة أصغر مما يطمح إليه. ولكي لا يعتدي على حصص غيره، احتجنا إلى القوة، أي إظهار العنف أو استعماله أحياناً، كي يرتدع المعتدي.
نحتاج طبعاً إلى تطوير الموارد كي تسد الحاجات المتزايدة. وهذا يتطلب استثمارات جديدة في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها. من هنا نعتبر المال والسلاح أبرز مصادر القوة، وهما محور العمل في مهنة السياسة. نحن نريد أن يلتزم رجال السياسة بالإنصاف والمساواة بين الناس، أن يعملوا ممثلين لمصالح المجتمع، وألّا يفرّطوا في الأمانة التي وُضعت في أيديهم. وهذا هو جوهر المضمون الأخلاقي للسياسة.
- هل يستلزم هذا ليناً في الكلام أو التعامل؟
أرى أنه لا يستلزم. وإن كان من مكارم الأخلاق، ومن علامات الكمال عند أي إنسان، سياسياً أو غيره. عالم السياسة مختلف عن العلاقات الاجتماعية العادية؛ ولذا فأخلاقياته مختلفة أيضاً. أي أن له أخلاقياته ومعاييره وإن خالفت توقعاتنا بعض الشيء.