د. آمال مدللي
مستشارة في الشؤون الدولية - واشنطن
TT

لبنان... الوقت على حدّ السّكين

استمع إلى المقالة

الوضع في المنطقة على حدّ السكين، كما تراه واشنطن. فبعد غزة والمواجهة المباشرة بين إسرائيل وإيران، الوضع في جنوب لبنان يصبح أكثر خطورة، خصوصاً بعد استهداف إسرائيل مواقع قوات حفظ السلام الدولية العاملة في الـ«يونيفيل» على مدى يومين متتاليين، ما يجعل العلاقة بين إسرائيل والمجتمع الدولي، خصوصاً دول قوات الـ«يونيفيل»، تغلي من التوتر. تصاعد استفزاز إسرائيل للـ«يونيفيل»، عبر ما وصفته القوة الدولية بوضع إسرائيل لقواتها العسكرية بمحاذاة القوات الدولية، ما يعرضها للخطر خلال المواجهات بين الجيش الإسرائيلي و«حزب الله». وتأتي هذه الأزمة الجديدة بين الأمم المتحدة وإسرائيل بعد سنة من التوتر مع المنظمة الدولية، كان آخرها تصنيف وزير خارجية إسرائيل للأمين العام للأمم المتحدة بأنه شخص غير مرغوب فيه في إسرائيل، ومحاولات إقفال مكاتب الـ«أونروا»، الهيئة الأممية التي تهتم بأمر اللاجئين الفلسطينيين.

لكن هذه المواجهة الأخيرة في جنوب لبنان لها أبعاد سياسية وعسكرية وجيواستراتيجية. فإسرائيل تطلب من القوة الدولية أن تنسحب عن الحدود اللبنانية؛ حيث تقوم إسرائيل بما تسميه «عملية محدودة» لكي تبعد، حسب قولها، مسلحي «حزب الله» عن الحدود الإسرائيلية لما بعد نهر الليطاني، لكي تتمكن من إعادة سكانها الذين هجرهم قصف «حزب الله» من منازلهم لمدة سنة حتى الآن.

السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة قال إن على هذه القوات أن تنسحب خمسة كيلومترات من أجل سلامتها. لكن المسألة ليست مسألة كيلومترات، بل عدم وجود ثقة بإسرائيل وأهدافها من التوغل ومداه ومدته، والتخوف من أن يتحول إلى احتلال دائم، كما حدث بعد اجتياح عام 1982، عندما احتلت إسرائيل بيروت بعد «عملية محدودة»، كما احتلت جنوب لبنان لمدة 18 سنة.

تأتي العملية هذه المرة وسط جو دولي منقسم ومأزوم، وفقدان الثقة، كما تقول واشنطن، بينها وبين إسرائيل، وحملة انتخابية يستغلها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أقصى درجة، لكي يحقق جميع أهدافه الاستراتيجية في وجود رئيس أميركي فقد كل قوته السياسية، بعدما أشرف عهده على الانتهاء، وهو غير قادر، أو لا يريد أن يغضب إسرائيل، خوفاً على خسارة حزبه الانتخابات الرئاسية. فرئيس الوزراء الإسرائيلي بكل بساطة لا يستمع إلى ما يقوله الرئيس الأميركي، وهناك مَن يتهمه بأنه لا يريد فوز المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس.

واشنطن تؤيد التوغل الإسرائيلي في جنوب لبنان، وما تصفه بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وأن تستمر في هجماتها البرية والجوية على «حزب الله»، كما قال الناطق باسم الخارجية الأميركية، ولكنه اعترف بوجود خطر توسع العملية أبعد من أهدافها الحالية. وعندما سُئل عن مدى حجم هذه الحملة، أجاب بأنه من الصعب التنبؤ بذلك، وحتى إسرائيل لا تعرف، ومن المستحيل معرفة كم ستستغرق إسرائيل لتحقيق أهدافها، للتخلُّص من البنية التحتية لـ«حزب الله» في جنوب لبنان، وإعادة الإسرائيليين إلى بيوتهم. ولكنه ذكّر بأنه عندما شنَّت إسرائيل عملية محدودة من قبل تحولت إلى احتلال طويل الأمد. في هذا الوقت تزداد الهجمات الإسرائيلية على بيروت، وجميع المناطق اللبنانية، وتحصد المئات من المدنيين.

الجميع يدعو إلى وقف لإطلاق النار. أعضاء مجلس الأمن خلال آخر جلسة طالبوا بوقف إطلاق نار فوري، خصوصاً غالبية الدول الخمس الكبرى، لكن المندوب الأميركي اكتفى بالقول إن الحل الدبلوماسي هو الطريق الوحيد لإعادة الهدوء.

هذا يعني أنه لن يكون هناك وقف لإطلاق النار الآن، أي لم يحن أوانه، خصوصاً إذا تذكرنا أمرين: الأول أنه حتى اليوم، وبعد مرور سنة على الحرب على غزة، فشل مجلس الأمن في التوافق على وقف دائم لإطلاق النار وحل سياسي. والأمر الثاني، وهو متصل، هو أن الانقسام الحالي في مجلس الأمن مستمر، وسيحول دون وقف النار، ونحن رأينا في آخر جلسة عن لبنان هذا الأسبوع كيف تبادل مندوبو أميركا وروسيا الاتهامات بخرق القانون الدولي في أوكرانيا للروسي، والشرق الأوسط للأميركي. وسط هذا الجو في المجلس، من المستحيل توقع التوصل إلى وقف لإطلاق النار.

لكن لبنان يمكنه أن يحصل على وقف للقتال، عبر الإصرار على تطبيق قرار مجلس الأمن «1701»، الذي يضم كل الشروط المطلوبة لوقف النار، ويوفر خريطة طريق لانسحاب إسرائيل إلى الحدود الدولية، ونشر الجيش اللبناني في الجنوب، وأن يكون هو القوة العسكرية الوحيدة الموجودة في هذه المنطقة. ويجب التذكير بأنه منذ تم التوصل إلى القرار «1701» بعد انتهاء حرب تموز 2006، لم يكن الهدوء النسبي الذي عاشته المنطقة هو نتيجة وقف لإطلاق النار. الذي كان سارياً، وحسب القرار، هو «نهاية الأعمال العدائية» بين الطرفين، ولا ذكر لكلمة وقف النار، لأن إسرائيل رفضت وقف النار، وطالبت بشروط موجودة في القرار اعتبرت أن لبنان لم ينفذها، وهي أيضاً لم تتمسك بتنفيذ القرار كاملاً، فاستمرت في خروقاتها الجوية والبحرية والبرية للأراضي والسيادة اللبنانية.

وهناك آلية متوفرة، هي اللجنة الثلاثية التي تضم عسكريين من قبل إسرائيل ولبنان والأمم المتحدة، والتي يمكن تقويتها وتوسعتها لتضم دولاً كبرى ونافذة للتحقق من انسحاب إسرائيل وانتشار الجيش اللبناني، وأن يكون وحده القوة العسكرية على الأرض، لكن دون كل هذا عراقيل، أولها قبول إسرائيل بإعادة الوضع إلى ما كان عليه لجهة الهدوء على جبهة الجنوب، وسحب قواتها خارج الأراضي اللبنانية، وقدرة لبنان على نشر الجيش وضمان عدم وجود قوات عسكرية غير الجيش في المنطقة، ما يعني ذلك الحصول على موافقة «حزب الله» سحب قواته إلى ما بعد نهر الليطاني، وهذا لا يبدو متوفراً حتى الآن، وأخيراً هو أن كل تقدم للقوات الإسرائيلية داخل لبنان يجعل نافذة الحل السياسي تقفل أكثر. لهذا فإن الوقت أيضاً هو على حد السكين في لبنان.