أنطوان الدويهي
أستاذ جامعي لبناني
TT

تحت تلك الراية

استمع إلى المقالة

هل نحن في انتظار «حرب الشرق الأوسط الكبرى»؟... يمثل هذا التساؤل في جميع النفوس على امتداد المنطقة، بعد 10 أشهر من الجبهات المفتوحة، المتصاعدة في كل اتجاه، من باب المندب إلى غزة إلى جنوب لبنان. ويرتفع الهاجس نفسه كل ليلة: ماذا يحمل يوم غد؟ متى الردّ الجديد؟ ومتى الردّ على الردّ؟

محور هذه الدوامة الحربية هو القضية الفلسطينية. وهو المحور نفسه الذي دارت حوله كل حروب المنطقة طوال 76 عاماً، من حرب 1948 إلى حروب 1956 و1967 و1973 وحروب لبنان منذ 1975 والاجتياحات الإسرائيلية التي استهدفته، ثم الهيمنة السورية فالهيمنة الإيرانية عليه، والتمدد العسكري الإيراني في الدول العربية الأخرى، وصولاً إلى «طوفان الأقصى» 2023 وما تلاه.

ولم تكن القضية الفلسطينية محورَ كل حروب المنطقة فحسب، بل محور مجمل تحولاتها السياسية أيضاً. ليس من انقلاب عسكري لم يرفع راية تحرير فلسطين. ولم يؤدِ ذلك كله إلى تحرير شبر واحد من أرض فلسطين، بل إلى تعزيز الاحتلال، وإلى إرساء مجموعة من الأنظمة الديكتاتورية القمعية، البالغة القسوة، في العراق وسوريا وليبيا وسواها.

وبعد أن استنفد العرب المسألة الفلسطينية، جاء دور العجم. منذ نحو نصف قرن، أطلقت الثورة الخمينية حركتها التوسعية، السياسية والآيديولوجية والعسكرية في المشرق العربي، تحت راية تحرير فلسطين. وتحت هذا الشعار تمت عسكرة الجماعات المذهبية المتعاطفة مع إيران في كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن، المزودة اليوم مئات آلاف الصواريخ والمسيرات، كما تم الدعم العسكري والتنظيمي للحركات الجهادية الإسلامية في فلسطين. ومع أن «أذرع إيران» في المنطقة تشكّل ضغطاً حربياً كبيراً على الدولة العبرية، فهي أججت التناقضات المذهبية والطائفية بينها وبين الجماعات المشرقية الأخرى غير المسلحة، وأدّت إلى إضعاف الحكومات والمؤسسات الرسمية في الدول العربية التي تتحرك فيها، وإلى إفقادها استقرارها وفاعليتها، وتعميق أزماتها الاقتصادية والمعيشية، وتهدد بتفكك مجتمعاتها.

ولا شك أن «النموذج اللبناني»، أي لبنان 1861 - 1975، الذي حقق أهم الإنجازات الحضارية التي عرفها المشرق، في نهضة الثقافة والفكر والتعليم العالي والتربية، وتجديد اللغة والأدب، والريادة في العدالة وفي الصحافة والفنون والطباعة والنشر، وفي الصحة العامة والاستشفاء والسياحة، وفي النهوض الاقتصادي والمصرفي، وفي تكريس الحريات وحقوق الإنسان، وقيم التفاعل والتسامح، وفي نمط حياة فريد بات قبلة أنظار العرب من المحيط إلى الخليج، قد انهار في نهاية المطاف تحت وطأة عاملين أساسيين: فساد طبقته السياسية والمالية والإدارية الحاكمة، واحتوائه أهم «أذرع إيران» البالغ التسلح، على هامش دولته ومعظم مجتمعه. وانهيار «النموذج اللبناني» انتصار تاريخي للكيان الصهيوني، جاءه بلا عناء «على طبق من فضة».

وبينما تدق هنا وهناك طبول «حرب الشرق الأوسط الكبرى»، يُطرح التساؤل: هل ستحقق الثورة الخمينية الإيرانية للقضية الفلسطينية ما لم تحققه لها الثورة البعثية، السورية والعراقية، والثورة الناصرية المصرية، والثورة القذافية الليبية؟ ونصرة القضية الفلسطينية تتم في أحد احتمالين: في حدها الأدنى عبر «حلّ الدولتين» (وهو غير وارد في رؤية الثورة الإيرانية)، وفي حدها الأقصى في تحرير القدس وكامل أرض فلسطين، وهو الهدف المعلن لإيران وأذرعها. فهل يتحقق ذلك؟

لا شك أن الكيان الصهيوني كيان مصطنع، نشأ عكس حركة التاريخ، يحمل في داخله هشاشته وغربته. إذ بينما كان الاستعمار الأوروبي ينسحب من كل مكان في العالم، أقامت الحركة الصهيونية دولة استيطانية، أخطر من الاستعمار بكثير. لكن هل إغلاق الباب أمام «حل الدولتين» من قبل الثورة الإيرانية (وهو غير مقبول إسرائيلياً أيضاً)، والإبقاء على حل أوحد هو إزالة الكيان الصهيوني من الوجود، هو أمر ممكن ومحتمل؟

كثير من التساؤلات. هل تهدف إيران وأذرعها في المنطقة فعلاً إلى إزالة إسرائيل من الوجود، بقوتها التكنولوجية، وقوتها النووية، وتضامن الغرب المطلق معها، الذي ما زال هو نفسه منذ نشوئها؟ هل «تكبير الحجر» على هذا النحو هو لعدم استعماله، كما يقول المثل الشعبي اللبناني؟ من اللافت أنه بينما تقود «أذرع إيران» المواجهات في كل مكان، يبقى هاجس إيران الأساسي منذ 10 أشهر، هو التفاوض والتحاور السري الجاري على قدم وساق مع الولايات المتحدة. ترى على ماذا؟ على تكريس الوجود الاستراتيجي الإيراني في المنطقة نهائياً، أم على القبول بإيران النووية، ترى على ماذا، وما الثمن؟