76 سنة مضت على إنشاءِ دولةِ إسرائيلَ في قلب المنطقة العربية، تاريخٌ طويل من الصراعات والحروب الدموية بين العربِ وإسرائيل، ومع ذلك لا يوجد عندنا، في حدود ما أعلم، اهتمامٌ علميٌّ جادٌّ بدراسة المجتمع الإسرائيلي وثقافته من جانب علماءِ الاجتماع العرب، مع أنَّ علماءَ الاجتماع والأنثروبولوجيا في إسرائيل لهم دراساتٌ هائلة عن المجتمعات العربية بما يفوق، أحياناً، معرفتنا عن مجتمعاتنا العربية، هذا التفوقُ المعرفي الإسرائيلي ينبع من أبجدياتِ العلاقة الوثيقة بين المعرفة والقوة وفقاً للمبدأ القائل: «المعرفة قوة»، أي أن امتلاك القوة لا بد أن يرتكز على أساسٍ معرفي راسخ. وهذا يُؤشِّر على أنَّ المعرفة في عالمنا العربي ليست من مصادر امتلاك القوة.
ومع ذلك ينبغي أن نتساءل: لماذا انصرفَ علماءُ الاجتماع العرب عن دراسة المجتمع الإسرائيلي؟ قد تكون المقاطعةُ العربية لإسرائيلَ هي سبب هذا الإهمال، خاصة أنَّ الدراساتِ الاجتماعيةَ تتطلَّب إجراء بحوثٍ ميدانية داخل المجتمع الإسرائيلي. وهذا الشرطُ لا يتحقَّق في ظل قطع العلاقات بين أغلبِ الدول العربية وإسرائيل. وإذا صحَّ ذلك فما عذر المشتغلين بعلم الاجتماع في الدول المُوقّعة على اتفاقيات سلام مع إسرائيل؟ وما عذر كل المشتغلين بعلم الاجتماع في عالمنا العربي إذا كانت هناك بياناتٌ ثانوية عن المجتمع الإسرائيلي من مسوح وإحصاءات ودراسات سابقة، ومصادر متاحة لا حصر لها يمكن الاعتماد عليها في دراسة المجتمع الإسرائيلي؟ وقد يكون انفراد الدولِ بإدارة العلاقة مع إسرائيل سبباً في وجود حواجزَ أمنية هنا وهناك تحول دون إجراءِ دراسات عن المجتمع الإسرائيلي، غير أنَّ المشكلة الأعمق تكمن في ضعف العلاقة بين العلم والسياسة في مجتمعاتنا العربية، فلا الدول بحاجة إلى جهودِ علماء الاجتماع عند صياغة سياساتها، ولا علماء الاجتماعِ العرب في الأغلب راغبون أو قادرون على تقديم إسهامات علمية في ترشيد صناعة القرار. ولهذا السبب ظلَّت عمليات إدارة فهم الشأن الإسرائيلي، على مدى 3 أرباع قرن، قاصرةً على دوائرَ محدودةٍ من خبراء الأمن وعلم السياسة والتقاليد الدبلوماسية.
ولكي تتَّضح الصورةُ أكثرَ علينا أن نتأمَّلَ بنيةَ المجتمع الإسرائيلي غيرَ المتجانسة وخصائصَه، حيث نلاحظ وجود 9.3 مليون نسمة يعيشون داخل دولة إسرائيل مِمَّن يتمتَّعون بالجنسية الإسرائيلية، أغلبهم من اليهود بنسبة تصل إلى 74 في المائة من مجموع السكان، مقابل 21 في المائة من السكان العرب، وباقي السكان أقليات مسيحية وعِرْقِيَّة مختلفة. الآن تشهد إسرائيل من الداخل انقساماتٍ عدة اجتماعية واقتصادية وسياسية حادة قد تؤثر على مستقبل دولة إسرائيل والفلسطينيين ودول الجوار، أهمُّها فجوات العدالة الاجتماعية الحادة بين اليهود والعرب من ناحية، وفيما بين فئات اليهود أنفسِهم من ناحية أخرى. ويشهد المجتمعُ الإسرائيلي انقساماتٍ دينيةً وعِرْقِيَّة وآيديولوجية حادة، تؤدي إلى أعمال عنف وجرائم كراهية تُهدِّد باستمرار الاستقرار والتماسك الاجتماعي من الداخل.
وهناك الانقسام بين العَلْمَانِيينَ والمُتَدَيّنينَ اليهود، علماً بأنَّ نسبة اليهود العَلْمَانِيينَ هي الأكبر ولا تقل عن 41 في المائة تقريباً من مجموع اليهود عموماً، وهؤلاء يطالبون بفصل الدين عن الدولة، وأغلبهم من كبار السن وأكثر تعليماً ويحتفظون بجنسيات أخرى إلى جانب الجنسية الإسرائيلية. وفي مقابل ذلك، تُوجَد فئات أخرى من اليهود أكثر تديناً وتشدداً، وبالأخص الصهاينة واليهود الأرثوذوكس (الحريديم)، ونسبتهم تصل إلى 33 في المائة من مجموع اليهود. ويُواجِه المجتمع الإسرائيلي من الداخل صوراً متعددة للتطرف الديني تدعو إلى الفصل بين الجنسين في الأماكن العامة، وفرض نظم مُتَشَدِّدة للتعليم الديني. وإلى جانب ذلك، تُعَد عملية تسييس التطرف الديني والآيديولوجي أحدَ أهم مقومات استقرار الدولة الإسرائيلية وبقائها، خاصة حين يتم توظيفه بإشعال الصراع مع الفلسطينيين كأعداء للتغطية على الانقسامات الداخلية القابلة دوماً للانفجار.
هذه المؤشرات تعني أنَّ المجتمع الإسرائيلي هشٌّ من الداخل. ويقتضي ذلك إجراء دراسات اجتماعية حول تأثير طبيعة وتحولات بنية المجتمع الإسرائيلي على مستقبل الصراع العربي الإسرائيلي كله، خاصة في ظل تنامي التأييد الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني بعد الانتهاكات الإسرائيلية المُروِّعَة في غزة. وفي هذا الإطار نتساءل: ماذا يحدث للمجتمع الإسرائيلي في ظل الصراع الشديد مع الفلسطينيين؟ ما موقف العرب والمسلمين في إسرائيل من هذا الصراع؟ إلى أي مدًى يرتبط التماسك الداخلي في المجتمع الإسرائيلي بالتغيرات المتوقعة في موازين القوى العالمية واتجاهات وتحولات الدعم الغربي لإسرائيل؟ هل يهاجر اليهود الأغنياء ويبقى اليهود الفقراء التقليديون والعرب معاً يواجهون مصيرهم في حتمية التعايش المشترك على نحو ما كان يحدث قبل إنشاء دولة إسرائيل؟ هل يمكن القول إنَّ مستقبل قطاع من اليهود في إسرائيل أصبح مرهوناً بمستقبل الفلسطينيين، ليكونا معاً في دولة واحدة على غرار ما حدث في جنوب أفريقيا بعد صراعات مريرة مع الفصل العنصري؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي من ضرورات صناعة سياسات عربية استباقية رشيدة تُسَاهِم في تمكين العرب من تعزيز الأمن والاستقرار والسلام العادل في المنطقة العربية. فهل يستجيب علماء الاجتماع العرب والجامعات ومراكز البحوث والحكومات العربية لهذا النداء؟
* أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة