د. ياسر عبد العزيز
TT

«داعش» ما زال بارعاً في استخدام الإعلام

استمع إلى المقالة

أعرف سلطنة عُمان جيداً، وقد زرت هذه الدولة مرات عدَّة على مدى ثلاثة عقود، ومن بين عشرات الأفكار التي أتذكرها بشأنها، ستبرز فكرتان؛ أولاهما ما تنطوي عليه من درجة عالية من التسامح والسلم الأهلي وحُسن التعايش، وثانيتهما ما تحظى به من أمن واستقرار لافتين، سيمكن ردهما إلى ارتفاع منسوب الثقة العامة، وتوفُّر مقومات الحكم الفعال.

في هذا العالم الذي تتدافع فيه الأخبار مشحونةً بمعدلات عالية من الشطط والجنون في بعض الأحيان، يصعب جداً الحديث عن «خبر صادم» أو «غير متوقع»، خصوصاً لهؤلاء المتخصصين في صناعة الأخبار وملاحقتها، ومع ذلك، فقد منحتنا سلطنة عمان خبراً صادماً ومفاجئاً في الأسبوع الماضي.

نعم... كان خبر شن مسلحين تابعين لتنظيم «داعش» عملية إرهابية، في عُمان، صادماً وغير متوقع بكل تأكيد؛ ليس فقط لأن «داعش» يمضي في طريق الانحسار، منذ قُوضت أركان دولته بعنف قبل خمس سنوات، وليس فقط لأن عُمان لم تكن موقعاً لجيوبه أو خلاياه القادرة على الفعل، لكن أيضاً لأن هذه الدولة بالذات تعرف درجة عالية من التسامح الديني، والتعايش بين أتباع الأديان والطوائف المختلفة، بما يبعد فكرة استهداف أتباع طائفة دينية معينة، بسبب انتمائهم الديني أو طقوسهم وشعائرهم.

من جانبي، لا أعتقد أن هذا الهجوم الإرهابي، الذي استهدف تجمعاً للشيعة، يعكس حالة طائفية أو إرهابية في سلطنة عمان، ولا أرى أنه يقدم دليلاً على وجود ذي أثر أو فاعلية لتنظيم «داعش» في هذا البلد، ولا أرجح أن يتكرر مثل هذا الهجوم الإرهابي على المديين القريب والمتوسط؛ لأن ذرائع العمل الإرهابي الفكرية والأمنية والسياسية خافتة وغير مؤثرة بدرجة واضحة.

لكن هذا الاعتقاد سيبدو متصادماً بطبيعة الحال مع حقيقة أن «داعش» ضرب بالفعل في سلطنة عمان، وهنا سيثور السؤال عن سبب وقوع هذه الحادثة الصادمة والمفاجئة، وأما الإجابة فستكون: من أجل الإعلام.

نعم... لقد ارتُكب هذا الحادث الإرهابي في عُمان من أجل الإعلام. لم يكن «داعش»، أو من يقف وراءه، يأمل في أكثر من أن ينطلق هذا الخبر الصادم عبر وسائط الإعلام «التقليدي» و«الجديد»، ليعلن للعالم أن التنظيم ما زال موجوداً، وأنه قادر على الضرب، وأن مشروع «الدولة» ما زال قائماً.

كانت رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة مارغريت ثاتشر هي من قالت إن «الإعلام أكسجين الإرهاب»، في محاولة منها للضغط على وسائل الإعلام في بلادها، لاتخاذ تدابير للحد من نشر أخبار «الجيش الجمهوري الآيرلندي»، في ذروة تحديه المُسلح لحكومتها، لكنها من خلال تلك المقولة لفتت أنظارنا إلى العلاقة الدائمة بين الإرهابيين ووسائل الإعلام.

ثمة علاقة نفعية بين الإرهابيين وبعض وسائل الإعلام؛ وفيها يستفيد الإرهابيون من نشر أخبار عملياتهم وتهديداتهم، فيعظمون من شأن أنفسهم، ويعززون الضغوط على أعدائهم، ويضاعفون أثر أنشطتهم الميدانية. وعلى الجانب الآخر، يحظى الإعلام بأخبار وفيديوهات وصور تصب في أهم أولويات الجمهور، وتلبي أكثر احتياجاته إلحاحاً.

ولهذه الأسباب، فقد عمد الأسترالي برنتون تارانت، منفذ مذبحة مسجدي كرايستشيرش في نيوزيلندا، في 2019، إلى بث المذبحة على الهواء عبر «فيسبوك»، كما قام عمر متين، منفذ مذبحة أورلاندو، في 2016، بتفقد التحديثات على حساباته في مواقع «التواصل الاجتماعي»، والبحث عن الأخبار بشأن جريمته في محرك البحث «غوغل»، خلال قيامه بقتل ضحاياه.

وعلى غرار تارانت ومتين وغيرهما من منفذي العمليات الإرهابية، فقد شن المسلحون العُمانيون الثلاثة هجومهم، في الأسبوع الماضي، بعدما استوفوا أركان عملية الإسناد الإعلامي؛ عبر تسجيل فيديو مبدئي يجسد إعلانهم مبايعة زعيم «داعش»، والتقاط صور فوتوغرافية لهم خلال حملهم علم التنظيم، وتسجيل لحظات إطلاقهم النار على مرتادي المسجد لتوثيق الحدث.

كما أن التنظيم بدوره حرص على رفد العملية بالمساندة الإعلامية الضرورية؛ حين سارع إلى بث الخبر الأول بشأنها عبر قناته في «تلغرام»، معلناً تبنِّيها، قبل أن يذيع فيديو المبايعة وإطلاق النار.

يُمكن القول إن هذا الحادث حقق نجاحاً إعلامياً بسبب توفُّر بيئة اتصالية مواتية، تجسدت في طاقة وسائط «التواصل الاجتماعي»، التي سمحت لـ«داعش» بتنفيذ استراتيجيته كما رسمها تماماً، بينما لم يمنحه الوسط الإعلامي «التقليدي» الفرصة لتحقيق أهدافه كاملة.

ولذلك، فعلى العالم، بحكوماته ومشرِّعيه ومنظماته الدولية والإقليمية، ومنظوماته الفكرية والأكاديمية، البحث في طريقة تحد من قابلية وسائط «التواصل الاجتماعي» لتقديم الهدايا السخية للإرهابيين، من دون الجور على حق الجمهور في المعرفة، أو في حرية الرأي والتعبير.