د. محمد النغيمش
كاتب كويتي
TT

المُعَلِّم ونقل الحرفة والمعرفة

استمع إلى المقالة

كانت ملامح وجهي تفيض بالدهشة والإعجاب وأنا أنظر إلى «معلم» الشاورما وهو يقصّ، ويحشو، ويلفّ، عشرات الشطائر في سرعة البرق. ذاكرة طفولية لن تنسى، أدركت لاحقاً أن ذلك يعود إلى مهارة «التكرار» التي منها انبثقت عظمة إتقان الحِرَف اليدوية والمصانع.

عندما نخسر «مُعَلّماً» ماهراً في كل مجال يُحرم جيل كامل من إبداعاته، ولو تقاعَس كل مُعَلّم ستحدث فجوة معرفية ومهارية، ولذلك نقدّم في بيئات الأعمال «الإدارة بالظل» (shadow management)، ويطبّقها الطبيب الماهر على المبتدئين ليرافقوه مثل ظلّه؛ لينهلوا من علمه ومهاراته ويومياته، فمهما درست لن تتعلّم بقدر ما ترى مشرط الجرّاح وهو يتدارك مشكلة مستعصية استجدّت في أثناء عملية جراحية خطيرة. كانت رُكَب طلاب العلم تُثنى لساعات عند العالم في جامعات الأندلس وحلقات العلم وغيرها.

وكم من «طالب صنعة» أو طالب علم تفوّق على معلّمه؛ لأنه قد حظي بموهبة أو جَلَد لم يتحلَّ بهما معلّمه، وكم من كهربائي أو سبّاك أو معماري أو بنّاء وموظف قد تخطى سقف التوقعات؛ لأنه كان يُصغي جيداً، ويلاحظ كل شاردة وواردة.

وربما كان معماري الإمبراطورية العثمانية سنان آغا أشهر من جسّد بمساجده ومبانيه أروع فنون العمارة العثمانية، فرغم أنه قد تفوّق فنياً على المعماري مايكل أنجلو، الاسم اللامع في الحضارة الأوروبية بحسب البروفيسور الألماني كلوك؛ أستاذ العمارة في جامعة فيينا، فإن سناناً نفسه كان متأثراً بروعة أداء معلّمي العمارة البيزنطية التي قدّمت «آيا صوفيا»، قبل أن يحوّلها المسلمون إلى مسجد. ثم صنعت أنامل سنان مسجد السليمانية العظيم في عام 1550 ميلادية، واستغرق بناؤه سبعة أعوام، ففي كل تلّة من التلال الإسطنبولية السبعة المُطلّة على البسفور شاهدٌ على روعة المُعَلِّم المعماري العثماني الذي عاصَر أربعة سلاطين.

وأنا أشاهد أناقة العمارة العثمانية والبيزنطية والأندلسية، أتساءل: لماذا لم تستمر تلك الحقبة؟ وربما يعود ذلك إلى الفجوة المعرفية والمهارية التي تحدث في كل جيل، عندما يتقاعس «المُعَلّم»، أو يغيب وجود برنامج مؤسّسي دائم، وهو ما نسمّيه في العصر الحديث «التلمذة» (Apprenticeship)، وهي عملية تدريب وتعليم المهن والحِرَف ضمن معاهد تمتد بين عامين إلى أربعة أعوام، أدركنا أهميتها بعد الحرب العالمية.

وقد برزت التجربة الألمانية بشكل مذهل، ما جعلها تتربع على عرش صانعي أجود المكائن. ونال اليابانيون كذلك نياشين الجودة بحِرَفهم وسيوفهم السامورائية، وصناعاتهم الحديثة، بفضل التطوير المستمر لقدراتهم، بالاستفادة من كل فكرة يقدّمها من سبقهم.

مهندس الإمبراطورية العثمانية سنان طوّر ما يتجاوز 470 مبنى، بقي منها نحو 196 شاهداً على عبقرية « المُعَلّم» وأهميته.