ليس هناك ما هو أفضل من إظهار التعاطف والتضامن مع شخص دخل العقد التاسع من عمره، حين تتراجع حالته الصحية، وتتكالب عليه الأمراض، كما أن التفتيش في الحالة الصحية لهذا الشخص، ومحاولة تقصي أبعادها بدقة، وإشاعة تفاصيلها بين الناس، ليس من حُسن الخصال.
لكن الأمر يختلف اختلافاً جذرياً، عندما يكون هذا الشخص منوطاً بالقيادة، أو التصدي للخدمة العامة، أو التمثيل السياسي للمواطنين؛ إذ يتطلب الأمر في ذلك الحين ما هو أكثر من إظهار التعاطف والتضامن. ويصبح من حق الناس، والمؤسسات، والمجتمع بأكمله، أن يعرف كل شيء عن الحالة الصحية لذلك الشخص، ما دام ذلك يمكن أن يؤثر في سويّة أدائه، وطريقة وفائه بالمهام العمومية. وفي تلك الأثناء، لن يكون هناك من هو أقدر وأهم من الصحافة، لكي تنوب عن الجمهور في معرفة تلك الحقيقة، وأن تنقلها، وتشرحها، وتستشرف تداعياتها، عبر وسائلها المختلفة.
في كثير من الدول تتضمن القوانين السائدة إلزاماً للراغبين في الترشح للوظائف السياسية، أو التعيين فيها، بضرورة إجراء كشف طبي شامل، لتضحى نتائج هذا الكشف أحد مسوّغات الترشح أو التعيين، في حال كانت سليمة، وفي دول أخرى، يصبح لزاماً على رئيس الجمهورية أن يقدم تقريراً مُعداً بواسطة أطباء متخصصين عن حالته الصحية بشكل دوري.
يقول البعض إن ذلك يعكس مبالغة غير مقبولة، أو إنه يشكل خرقاً لقيمة الخصوصية، أو إنه يمثل اعتداء على حق بعض السياسيين في إخفاء ما قد يُلم بهم من مشكلات صحية عن ذويهم لاعتبارات عاطفية ومقتضيات عائلية.
إن تلك الذرائع يمكن أن تحظى بالتفهم والاحترام، لكنها مع ذلك لا يمكن أن تنهض مسوغاً لحمل الصحافة على الابتعاد عن محاولات تقصي الحالة الصحية للرؤساء والقادة السياسيين والمرشحين للانتخابات العامة.
عندما يقرر شخص ما أن يتصدر لخدمة العموم، فإنه يكون قد وافق على «التصدق بشيء من عرضه»، كما يقول ابن حزم الأندلسي؛ لأن الجمهور الذي يفوّض هذا الشخص في اتخاذ القرارات الملائمة لتحقيق مصالحه والمصالح الوطنية عموماً، من حقه أن يتأكد أنه قادر على ذلك، وأن مانعاً صحياً معيناً لا يعوقه جسدياً أو ذهنياً عن الوفاء بمهمته على الوجه الأمثل.
لذلك، سيكون من حق الصحافة الأميركية أن تسعى لمعرفة تفاصيل حالة الرئيس بايدن الصحية، لأن الجمهور يستحق أن يعلم، والمؤسسات تستحق أن تعلم، والحلفاء أيضاً يستحقون أن يعلموا، إلى أي حد وصلت تلك الحالة، وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر في مصالحهم سلباً.
لم يخترع أحد مشكلة صحية للرئيس بايدن، ولم يتآمر أحد على هز الثقة فيه بادعاء مرضه وفقدانه التركيز اللازم لاعتلاء منصب سياسي رفيع مثل الذي يشغله، ويسعى لولاية أخرى فيه، لكن الرئيس نفسه جلب هذه المشكلة إلى المجال العام، عندما أفرط في ارتكاب الزلّات، بشكل أفقده ثقة بعض أركان حزبه وبعض قطاعات الجمهور.
وفي الأسبوع الماضي، كان جديد زلّات لسان الرئيس بايدن أنه عدّ كامالا هاريس نائبةً لترمب، وأطلق اسم بوتين على الرئيس الأوكراني زيلينسكي، وخلط بين أوروبا وآسيا، خلال اجتماع على هامش قمة «الناتو» في واشنطن.
لم تكن تلك معضلة جديدة يواجهها الرئيس الذي تجاوز الحادية والثمانين من عمره، لكنه سبق أن سقط كثيراً في أثناء محاولته صعود السلم، أو قيادة الدراجة، أو مجرد السير. كما أنه سبق أن أفشى أسراراً عسكرية حساسة وخطيرة، خلال مقابلة تليفزيونية.
في واحدة من زلّاته الشهيرة، كان يتحدث في حرم إحدى الجامعات الأميركية عندما أنهى خطابه بعبارة «حفظ الله الملكة»؛ وهي عبارة اعتاد الخطباء البريطانيون، على مدى العقود السبعة الأخيرة، اختتام خطاباتهم بها، قاصدين الملكة الراحلة إليزابيث الثانية. وأمام «البرلمان» الكندي، حيَّا بايدن الصين بدلاً من كندا، وأخيراً حذَّر روسيا، في كلمة ألقاها، من استمرار «هجومها غير الإنساني ضد روسيا»! ونسى بايدن اسم رئيس الوزراء الأسترالي خلال مؤتمر صحافي مشترك، ووصف كوريا الشمالية بأنها «دولة حليفة»، كما أطلق اسم فرنسوا ميتران على الرئيس الفرنسي الحالي ماكرون.
ثمة مئات الحالات التي ظهر خلالها بايدن فاقداً للتركيز، أو مشوشاً، أو غير لائق ذهنياً وبدنياً، ومع ذلك، فإنه يُصر على أنه المرشح الأمثل، ويريد ولاية جديدة سيُنهيها، إذا فاز بها، في عمر الـ86 عاماً.
من حق الصحافة أن تتقصى حالة بايدن الصحية، وأن تنقلها وتشرحها للجمهور، لأن تلك الحالة ليست شأنا خاصاً يمكن إخفاؤه أو حمايته، ولكنها شأن عام، تقتضي المصلحة العامة أن يكون مُعلَناً ومفهوماً.