منذ أسبوع وديمقراطيّو العالم يحتفلون بالانتصار الكبير الذي حقّقته فرنسا. فالديمقراطيّة نجحت في منع «حزب التجمّع الوطنيّ» المتطرّف من إحراز أكثريّة البرلمان الجديد، بل منعته من إحراز الموقعين الأوّل والثاني فيه. لكنّ اللافت أنّ كثيرين ممّن شهدوا لهذه الديمقراطيّة ولإنجازها، كانوا قبل أيّام فحسب ينعون الديمقراطيّة البرلمانيّة ونموذجها السياسيّ، ويعلنون تمهيدها للفاشيّة، أو كونها هي ذاتها فاشيّة مُقنّعة.
والحال أنّ أكثريّة الفرنسيّين الواضحة قالت، أقلّه للمدى المنظور، إنّ شعبويّة اليمين انتكست، وإنّ الأوروبيّة خيار محسوم، فيما التمييز بين المواطنين تبعاً لأصولهم ردّة مرفوضة إلى الوراء. وقد حصل هذا رغم أوضاع اقتصاديّة سيّئة صحبها انبعاث لقيم سياسيّة قديمة وهويّاتيّة تنهل النيو-فاشيّة منها أدبيّاتها وتعصّباتها.
فحتّى لو غيّرت الأفعى جلدها، وحلّت مارين لوبين محلّ أبيها أو تمثّلت بالشابّ جوردان بارديلا، يبقى «حزب التجمّع»، كما وصفه بيان أصدره بعض مؤرّخي فرنسا، «وريث الجبهة الوطنيّة التي أسّسها في 1972 أشخاص نوستالجيّون لفيشي وللجزائر الفرنسيّة. فهو ورث برنامجها وهواجسها وطاقمها، وهو عميق التجذّر في تاريخ أقصى اليمين الفرنسيّ، تشكّله قوميّة كارهة للغريب وعِرقيّة ولا ساميّة وعنفيّة ومحتقرة للديمقراطيّة البرلمانيّة (...) فهذا الحزب لا يمثّل اليمين المحافظ أو القوميّ، بل يطرح التهديد الأكبر على الجمهوريّة والديمقراطيّة».
وإذا كانت بريطانيا، المأزومة اقتصاديّاً أيضاً، قد اختارت حزب العمّال، فإنّ بلداناً أوروبيّة وازنة كإسبانيا، لا تزال تكافح خيار اليمين المتطرّف، فيما يردّه بلد أوروبيّ آخر كبولندا على أعقابه، وهو ما يصحّ أيضاً في بلد عملاق غير أوروبيّ كالبرازيل...
وإذا كان تشكيل «الجبهة الشعبيّة الجديدة» أحد العناصر التي أحبطت اليمين الفرنسيّ المتطرّف، تيمّناً بما فعلته «الجبهة الشعبيّة» القديمة في 1936، فالعنصر الآخر كان موقف الوسطيّين الماكرونيّين (ائتلاف «معاً») الذين نسّقوا حملة الدورة الثانية مع أحزاب اليسار للحيلولة دون فوز أقصى اليمين. وهذا أيضاً خطّأَ نظريّة «عودة الفاشيّة»، بناء على الموقف الفرنسيّ من حرب غزّة، وآثر توزيع الحصص والمسؤوليّات تبعاً لأولويّات عقلانيّة ترى الأمور بعين أوسع. لكنّه كذلك خطّأَ نظريّة أخرى مفادها أنّ «البورجوازيّة»، حين ينتابها الوهن أو الارتباك، تلتحق بالفاشيّة وتسلّمها القيادة في عمليّة «سحق الحركة الشعبيّة». ذاك أنّ الماكرونيّين اختاروا، حين جَدّ الجدّ، التنسيق والتفاهم مع أحزاب اليسار، وهو ما كان شرطاً لإنتاج تلك الحصيلة الباهرة.
لكنّ الاحتفال بالنتيجة الانتخابيّة لا يؤدّي إلى رسم صورة ورديّة للمستقبل. فالأوضاع الاقتصاديّة المشوبة بانكماش الموارد لا تزال على حالها، وكذلك شروط الاستقرار السياسيّ بما فيها الصعوبات التي تعترض تأليف الحكومة الجديدة. والأهمّ، وكما نبّه أكثر من مراقب، أنّ اليمين المتطرّف ازداد، ويزداد، قوّة، وغدا حاليّاً، رغم هزيمته الأخيرة، الحزب الأوّل في فرنسا بقياس الأحزاب المفردة لا الجبهات المؤتلفة.
وهذا جميعاً ما يحمل على الجزم بأنّ النجاح في إحداث استقرار سياسيّ نسبيّ هو وحده ما يضمن إبقاء اليمين المتطرّف، غداً وبعد غد، بعيداً من السلطة. ولبلوغ ذلك هناك أكثر من شرط يطال غير جهة.
فالماكرونيّة ستكون مدعوّة، لإنجاز هذه المهمّة، إلى ضبط نيوليبراليّتها الاقتصاديّة، خصوصاً في المجال الضريبيّ وتوزيع الأكلاف، ناهيك عن الإقلاع عن استعارة بعض لغة اليمين المتطرّف بحجّة أنّها بهذا تعرّيه من لغته، فيما تعلّم التجارب أنّ تلك الاستعارة تضع اللغة المذكورة في صدارة السياسة والخطاب السياسيّ السائدين، وهذا فضلاً عن ضرورة أن يتخفّف «السيّد الرئيس» من الانتفاخ الذاتيّ، شبه البونابرتيّ، الذي يسكنه التباهي بكونه لم يصدر عن إيديولوجيا وحزب تاريخيّ بعينها.
وفي المقابل، لن يكون أيّ دور بارز لحزب «فرنسا الأبيّة» سبباً للاستقرار والبناء على إجماعات ديمقراطيّة تقطع الطريق على اليمين المتطرّف. فالبرامج القصوى، بما تنطوي عليه من استعجال ومغامرة، تُحدث زيادة في الإنفاق العامّ تفوق ما يحتمله الاقتصاد، وتؤدّي إلى نزوح المستثمرين ورجال الأعمال عن فرنسا، وهذا فضلاً عن مواقف انقلابيّة حيال أوروبا وروسيا والولايات المتّحدة، ناهيك عن مآخذ متعاظمة طالت لا ساميّتها، ممّا لا يبرّره موقفها النقديّ المُحقّ من إسرائيل.
وما دام أنّ «حزب التجمّع الوطنيّ» قد نجح في تحويل الهجرة أهمّ قاطرات صعوده، وما دام ماضياً في ذلك، بات ضروريّاً التفكير بدور المهاجرين وذوي الأصول المسلمة. فلا بدّ، هنا، من مراجعات تسدّ المنافذ أمام خطاب الكراهية، وتعيق حركة العنصريّين في تحميلها المهاجرين مسؤوليّة الأزمات العامّة وأكلافها. فكيف يُعمَل على إحلال وعي مطلبيّ ديمقراطيّ محلّ وعي برّانيّ متوتّر، وكيف تُطوَّر ثقافة إدانة الإرهابيّين «من أبناء جلدتنا» بصوت مرتفع، وكيف تسود نظرة إلى التعدّد بوصفه بلورة لقواسم مشتركة، لا قطعاً لها...، أسئلة مُلحّة مطروحة في مواجهة كهذه، مدبدة ومسكونة باحتمالات مقلقة.