هي رسالة من صديقي الأديب والمفكّر الفرنسي، الذي أمضى ردحاً من حياته في لبنان، والذي اعتاد مراسلتي. طالما حملت كتاباته قلقاً على «بلاد الأرز» التي يحبها حبّاً جمّاً. أما رسالته الأخيرة فتتحدث عن فرنسا، التي باتت تقلقه مثلما يقلقه لبنان. وهو يبوح لي كيف اقترع، الأحد الفائت، في الدورة الأولى من انتخابات البرلمان الفرنسي، ويعلّل بوضوح ودقة قراره. ما فاجأني وسرّني، كون الاقتراع في مجتمع الأفراد، خلافاً لمجتمع الجماعات، شأناً ذاتياً بحتاً. لا أحد يقدم على سؤالك: «لمن اقترعت؟»، حتى شريكة حياتك وأقرب الناس إليك، وأنت لا تعلم لمن اقترعوا.
هو يؤكد لي ما أعرفه وأشعر به، بأن فرنسا تمرّ بأزمة عميقة وخطيرة، لا سابق لها منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية قبل 86 عاماً. وأن هذه الانتخابات تنطوي على مواجهة لا سابق لها ولا مثيل؛ إذ تتخطى الخلافات السياسية والاقتصادية والأمنية، وهي كثيرة، لتطال الهوية الفرنسية نفسها. وهو يشير إلى ما أعرفه أيضاً، وهو أن الحوار الجدي حول مسألة الهوية بات متعذّراً في هذه الديمقراطية الفرنسية العريقة، وأن لا أحد بات مستعداً للاستماع لأحد والتفاعل حقاً معه. فالخلاف حول الهوية ذهب بعيداً جداً وبلغ نقطة اللاعودة. لكن على الرغم من خطورة الوضع، يبدو الصديق الفرنسي حائراً متردّداً، غير قادر على حسم أمره. وهو يذكّرني في رسالته بعبارة لدوستويفسكي طالما أشرت إليها، حين يكتب الأديب الروسي في مستهل روايته: «الإخوة كرامازوف» بأنه «من الغريب حقاً في زمن مثل زمننا أن نطالب الناس بالوضوح»... أجل، في الأزمنة الشديدة الاضطراب، يصعب الوضوح.
مع ذلك، يعرف الصديق الفرنسي لمن لن يصوّت أبداً. لن يصوّت لأي مرشح من «الجبهة الشعبية الجديدة»؛ أي تحالف اليسار المتشدد والمعتدل معاً، الذي نواته الصلبة حزب «فرنسا المتمرّدة» بقيادة جان- لوك ميلانشون. هو يرى في ميلانشون مشكلة كبرى لا حل لها. ويرى أن مثل هذا الاتجاه ومثل هذه القيادة هما المسؤولان الرئيسيان عن إيصال الخلاف حول الهوية الفرنسية إلى حدود «الحرب الأهلية».
ومع أن هذا الاتجاه هو الأكثر تأييداً للقضية الفلسطينية والأكثر عداءً لإسرائيل في فرنسا؛ فالصديق الفرنسي يعتبر ميلانشون نقطة التقاء التيارات الثلاثة التالية: تيار اليسار الفرنسي الأقصى، التروتسكي العقل، الأممي بالمطلق، العنيف، والرافض الديمقراطية وتداول السلطة، وتيار «الإخوان المسلمين» الذي يحرّك شبكات كثيرة خفية وفعّالة في أوساط ملايين المهاجرين في فرنسا وسائر أوروبا، والذي أضحت بلجيكا قاعدة نشاطه في العالم، وتيار «الووكية» (اليقظة) المنتشر في الغرب، المُعادي للرجل الأبيض ولحضارته ورموز تاريخه. ولا يخفي ميلانشون اعتباره الفرنسيين «الأصليين» أصل المشكلة، وهو يجاهر بدعوته إلى إقامة «فرنسا الجديدة» الملونة والأممية، الفاتحة حدودها للهجرة الكثيفة إليها من كافة أنحاء العالم، الهجرة الاقتصادية هرباً من العوز والمجاعة، والهجرة السياسية هرباً من القمع والاضطهاد، وأيضاً الهجرة المناخية هرباً من الفيضانات والزلازل وأهوال الطبيعة. وهو يعتبر هذه الهجرات أمل فرنسا الواعد في الحاضر والمستقبل.
مع ذلك، لن يصوّت الصديق الفرنسي لتجمع اليمين المتشدد، الذي يفضّل تسميته بـ«اليمين الوطني»، المدافع عن «فرنسا الفرنسية» وهويتها وتاريخها. فالامتحان الانتخابي في نظره ليس فرنسياً فقط، بل أوروبي أيضاً. ومع أنه يفضل أوروبا الديغولية، المحافظة على هوية الأمم ومنعتها، ويرفض ما تمثله هيئات بروكسل من منحى اقتصادي عالمي مركنتيلي «عديم الأصالة والروح»؛ فإنه يرفض بشدة تعاطف «اليمين الوطني» الفرنسي مع روسيا بوتين، ويعتبر اجتياح أوكرانيا ظاهرة بالغة الخطورة يجب التصدي لها بكل الوسائل، وفاتحة تهديد وجودي لكافة شعوب أوروبا.
لا يبقى للصديق الفرنسي إلا احتمال التصويت لمعسكر المعتدلين والوسطيين، من ماكرونيين وبقايا شيراكيين وديستانيين وميتيرانديين وسواهم. لكنه يعبّر عن رفضه العميق لهذا المعسكر «الهجين»، الذي يعتبره المسؤول الأساسي، من خلال ممارسته الحكم طوال السنوات الأربعين الماضية، عمّا آلت إليه فرنسا اليوم. وهو يرى فيه «حليفاً موضوعياً» لـ«الجبهة الشعبية الجديدة»؛ «لأسباب تكتيكية ونفعية وانتخابية وقصر نظر»؛ إذ فتح أبواب الهجرة إلى فرنسا على مصراعيها على مدى عقود، تاركاً المجال لقيام «بؤر أمنية لا سيطرة للدولة عليها» في مختلف أنحاء البلاد، مراكماً الديون الخارجية الباهظة، متسبباً بالاختلالات الاقتصادية التي يرزح تحتها الشعب اليوم...
لم يبقَ للصديق الفرنسي إلا الاقتراع بالورقة البيضاء، وهكذا فعل.