من بين اللواتي كن ضحايا ذكر أسمائهم من طرف اليمين المتطرف الفرنسي الذي يعتزم منع المواطنين من حاملي الجنسية المزدوجة، بموجب مرسوم سيحدد قائمة بتلك الوظائف؛ توجد الوزيرة نجاة بلقاسم، وهي سيدة أعرفها جيداً، ودائماً أجدها تعشق العلم والقلم وتجيد فن الخطاب الجامعي الأكاديمي، واجتمعت معها مراراً في أنشطة فكرية، وأسعد عندما تعطي محاضرات عندنا في الجامعة الأورومتوسطية في مواضيع تتعلق بسوسويولوجية المجتمعات المعاصرة.
السيدة نجاة هي رمز نجاح أبناء الجيل الأول من المهاجرين المغاربة والأجانب إلى الديار الفرنسية والأوروبية؛ عاشت حياة عادية في صغرها في قرية بني شيكر المغربية التابعة لإقليم الناظور، وهي تتحدث «الريفية» بطلاقة، ثم انتقلت في صغر سنها إلى حجرات المدرسة في فرنسا مع شقيقتها الكبرى، وولد أشقاؤها الخمسة الآخرون في فرنسا ووالدها كان يعمل في مجال البناء... كانت رفيقة للكتاب ونابغة في الدراسة، وشاءت الأقدار أن تأثرت بويلات عالم السياسة إلى أن أصبحت فاعلة فيه... تبوأت مناصب عديدة قبل أن تصبح وزيرة حقوق المرأة والمتحدثة الرسمية باسم الحكومة، ثم سميت وزيرة للشباب والرياضة، ثم انتقلت إلى منصب وزيرة التعليم؛ كل هذا في عهد الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند.
وحتى عندما تقلدت تلكم المناصب لم تسلم السيدة نجاة بلقاسم من سهام العنصرية الموجهة إليها، إلى درجة أن بعض وسائل الإعلام المحافظة في تلك الفترة، رأوا أن تعيينها في منصبها وزيرة للتعليم يعد بمثابة «استفزاز»، وسط تكهنات من جانبهم بأنها تسعى لأسلمة المدارس الفرنسية. ولكن هاته الأسلمة التي تحدثوا عنها لم تقع، وكانت الوزيرة من أفضل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة التعليم بشهادة الجميع.
واليوم كما الأمس ولكن بدرجة كبيرة وخطيرة، نجد بعض المرشحين للانتخابات يثورون على المواطنين من حاملي الجنسية المزدوجة، ويذكرون بعضاً منهم بالاسم، وعلى رأسهم السيدة نجاة بلقاسم، التي جعلها هذا الوضع تدلي بتصريحات في وسائل الإعلام المرئية وتكتب مقالة في جريدة «لوموند» الفرنسية، الذائعة الانتشار، تشجب هذا الوضع، وتذكر بالقيم الكونية وحقوق الإنسان التي كانت فرنسا واحدة من عواصمها.
أكتب هذا الكلام لأقول إن كراهية الأجانب التي كبكب فيها العديد من الفئات المجتمعية الفرنسية وكانت مبطونة عند بعضهم، أضحت مسألة علنية وتجسدها برامج أحزاب، وعلى رأسها حزب اليمين المتطرف؛ كما أن هاته الظاهرة أصبحت مسألة تتبلور في علاقة القوات العمومية بالمواطنين، ويكفي أن نستحضر أحد تقارير لجنة القضاء على التمييز العنصري التابعة للأمم المتحدة الأخيرة، الذي انتقد الممارسة المتواصلة في فرنسا والمتمثلة في «التنميط العنصري المقترن بالاستخدام المفرط للقوة في تطبيق القانون، وبخاصة من جانب الشرطة، ضد أفراد الأقليات، بما في ذلك الأشخاص من أصل أفريقي وعربي».
فرنسا ليست بخير وستجر معها المشروع الأوروبي إلى الهاوية. شخصياً لم أفهم ما قام به الرئيس الفرنسي عندما أعلن مؤخراً عن حل الجمعية الوطنية، فهو كان يراهن على حصول انقسامات في تيار اليسار كتلك التي وقعت خلال الحملة الأوروبية من جهة، وعلى «حاجز جمهوري» جديد لتحقيق الفوز في الجولة الثانية أمام اليمين المتطرف. ولكن كل هذا لم يقع. فقد أخطأ الرئيس التفكير والتوقيت وأدخل معسكره في غيابات الجب وصوت الجميع ضده، جعل ائتلافه الرئاسي «معاً» يصل ثالثاً بنسبة 20.04 في المائة من الأصوات، خلف «التجمع الوطني» وحلفائه (33.15 في المائة) و«الجبهة الشعبية الجديدة» (ائتلاف اليسار) (27.99 في المائة).
الرئيس الفرنسي كان واثقاً من نفسه بقرار حل البرلمان، وقارن تلك الخطوة بـ«قنبلة يدوية ألقى بها بين أرجل» خصومه، ولكنها أصابت معسكره فقط، وكانت الإصابة خطيرة جداً إلى درجة أنها قتلت الأغلبية وأخرجت السموم المدفونة إلى العلن، وأدخلت الفاعلين داخل المجال السياسي العام في تحالفات لم تعهدها أبجديات العلوم السياسية المعاصرة في المجتمعات الغربية، وجعلت رؤساء دول مثل ألمانيا يخرجون بتصريحات يحفها الخوف من مستقبل السياسة وأهلها في فرنسا، ومن مصير المشروع الأوروبي الذي قد يخسر في المستقبل فرنسا، أحد محركيه (وهما فرنسا وألمانيا)، وقد يهوي ذلك به في مكان سحيق.
إن الفاعلين السياسيين في فرنسا ليسوا في الحركية السياسية الصحيحة، وهم في مواجهة اليمين المتطرف يوجدون جميعهم في مستنقع الدفاع الظرفي عن النفس، لا أكثر.
الملك لويس السادس عشر سبق وأن خلق في زمانه نظاماً قوياً شمولياً إقطاعياً. والشيء نفسه يقال عن الجمهورية الخامسة الفرنسية من طرف ديغول: الدولة القوية له... والمصيبة هي أنه عندما تخلق دولة قوية ويحكمها أناس ضعفاء أو لا شرعية لهم. فهنا الكارثة.