إميل أمين
كاتب مصري
TT

«أوروبا العظيمة»... شعار مَجَري بنكهة أميركية

استمع إلى المقالة

لم يعد مِن صوت يعلو فوق صوت انتصارات اليمين الأوروبي المتشدد، مع ما يستتبع ذلك من تغيرات وتطورات، يمكنها أن تغيِّر من شكل أوروبا، حاضراً ومستقبلاً.

ولعل من المتناقضات أن تتسلَّم دولة المجر رئاسة الاتحاد الأوروبي في هذه الأوقات المحتقنة، وهي الدولة حفيدة الملكية الغابرة، المحملة من جانب بحسابات الماضي وصراعاته -لا سيما مع الإمبراطورية العثمانية- ومن جانب آخر لا تبدو مساراتها متسقة مع توجهات الاتحاد الأوروبي.

الاثنين الماضي، استهلت المجر رئاستها الدورية للاتحاد الأوروبي؛ حيث رفع رئيس وزرائها فيكتور أوربان شعاراً جديداً مثيراً: «لنجعل أوروبا قارة عظيمة مرة أخرى».

من غير طول حديث، يبدو الشعار رَجْع صدى للشعار عينه الذي رفعه الرئيس الأميركي السابق، المرشح الجمهوري الحالي، دونالد ترمب، خلال حملته الانتخابية عام 2016، والذي عُدَّ ميلاً لجهة اليمين.

وليس سراً القول إن هناك علاقة وثيقة بين ترمب وأوربان، لم تنقطع منذ أن غادر الأول البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) 2021. وفي مارس (آذار) الماضي كان رجل المجر القوي يزور ترمب في منتجع مارالاغو الشهير الذي يمتلكه ترمب في فلوريدا.

العلاقة بين الرجلين تستدعي مخاوف قسم بالغ من أنصار اليسار الأوروبي المهزوم حديثاً، فترمب يصف أوربان بأنه «لا يوجد من هو أذكى أو أفضل منه»، بينما أوربان من كبار الداعمين والداعين لإعادة انتخاب ترمب لولاية رئاسية جديدة، ويرى أنه قد حان الوقت بالفعل لتصبح أميركا عظيمة من جديد، وكذلك القارة الأوروبية العجوز.

هل أوربان ظاهرة محيرة؟

غالب الظن أنه كذلك، غير أنه بمزيد من التحقيق والتدقيق، يمكننا أن نكتشف أن الرجل له توجه خاص لأوروبا، يكاد من خلاله أن يصبح جسراً بين واشنطن وموسكو؛ لا سيما أنه يحتفظ أيضاً بمودات خاصة مع القيصر بوتين، وله رؤية مغايرة للأزمة الأوكرانية.

في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وعلى هامش أعمال منتدى «الحزام والطريق» الذي عُقد في العاصمة الصينية بكين، التقى أوربان بوتين، وأخبره أن «المجر لم ترغب أبداً في مواجهة روسيا»، مضيفاً: «إن هدف بودابست كان دائماً إنشاء وتوسيع أفضل الاتصالات بصورة متبادلة».

هل يمثل أوربان سعياً لأوروبا العظيمة بصورة أقرب ما تكون للفكر الأوراسي، الذي لا يعدُّ عداوة روسيا أمراً تتطلبه الضرورة، أو تقر به الأقدار؟

يرفض أوربان انضمام أوكرانيا إلى حلف الأطلسي، كما يتزعم عرقلة تقديم الاتحاد الأوروبي مليارات الدولارات لزيلينيسكي، لاستخدامها في حربه ضد روسيا.

في تصريحاته قبل أيام لصحيفة «ماغيار نيمزيت» المجرية، بدا أوربان وكأنه يصب جام غضبه على رؤوس قادة الاتحاد الأوروبي الذين يريدون جر الأوروبيين للصراع الأوكراني، رغم افتقارهم للإمكانية على حد تعبيره.

ويرى أوربان أن الأوضاع تتفاقم في الداخل الأوروبي، من جراء بيروقراطية بروكسل التي اتخذت في السنوات الأخيرة عدداً من القرارات السياسية الخاطئة، وأن إنهاء الصراع الأوكراني- الروسي من بين أهم النقاط في رئاسة بلاده لمجلس الاتحاد الأوروبي.

هل لهذا تواجه المجر ورئاسة أوربان تشكيكاً واسعاً في نزاهة رئاستها للاتحاد الأوروبي؟

مؤكد أن الأمر يمضي على هذا النحو؛ لا سيما في ضوء اعتبار أوربان أو الأوروبيين -وبمعنى أكثر دقة: اعتبار القادة السياسيين- أنهم يركزون جهودهم لمواجهة قضايا خلافية من نوعية الهجرة، والحرب، والركود، بينما يهملون أحجار الزاوية الرئيسة في الهيكل التكتوني الأوروبي: السلام، والنظام، والتنمية.

تبدو رئاسة المجر للاتحاد الأوروبي وكأنها عقبة جديدة قادمة في مسيرة الوحدة الأوروبية، فحسب آخر استطلاع أجراه «يوروباروميتر»، -وهو عبارة عن سلسلة من الدراسات الاستقصائية تُجرى بانتظام نيابة عن المفوضية الأوروبية منذ عام 1973- فإن 29 في المائة من المجريين فقط يدعمون فكرة البقاء في الاتحاد الأوروبي الذي يجمعهم مع دول أوروبية أخرى.

أي مستقبل عظيم ينتظر أوروبا في ضوء هذا القدر الكبير من الخلافات والاختلافات، من القلاقل والاضطرابات الآيديولوجية والعرقية؟

أوروبا اليوم عرضة لإغراءات الانجرار وراء حركات اليمين التي بات جلياً أنها سترتقي قريباً جداً مواقع السلطة في كثير من دول القارة الأوروبية، مع كل التبعات الشقاقية والفراقية الملازمة لها، ما يعزز من صدام «الحديقة الأوروبية» و«الأحراش الخارجية».

ما يجعل أوروبا عظيمة من جديد، هو تعزيز السلام وقيمه، ورفاهية المواطن وحريته، عطفاً على صون الكرامة الإنسانية لكل من يوجد على أراضيها من مواطنين ومقيمين، مع حق كل دولة في الحفاظ على هويتها، ضمن روئ التثاقف مع بقية العالم، لا التعاطي معه بفوقية.