على خلفية مُضيّ أمين عام «حزب الله»، حسن نصر الله، في تهديد إسرائيل من مغبة شنّها حرباً على لبنان، وبقصف قبرص إذا فتحت مطاراتها أمام إسرائيل لشن هجومها، ونقل المبعوث الأميركي الخاص آموس هوكستين تهديداً إسرائيلياً جدياً للبنان، تشهد المناطق اللبنانية منذ منتصف الشهر الحالي زحمة حفلات غنائية ومهرجانات ومسرحيات، ليست بجديدة على البلاد، ودُرّتها كل عام مهرجانات بعلبك الدولية وبيت الدين في الشوف، وغيرها.
اللافت هذه السنة أن عدد هذه الأنشطة وكلفة تنظيمها والأسماء التي ستحييها وعدد الحضور المتوقع، يتجاوز كل ما سبق حتى بأحسن الأحوال السياسية والأمنية التي شهدها لبنان منذ الستينات وحتى اليوم. الغرابة أنها تجري ولبنان يعاني منذ سنوات أزمات سياسية وأمنية واقتصادية ومالية واجتماعية تهدد الكيان برمته، من فراغ المؤسسات الدستورية، إلى الفساد المستشري، والمسّ باستقلالية القضاء، إلى تلاشي الودائع المصرفية وانهيار العملة، إلى مشكلة النازحين السوريين، والاختلال الأمني، وبخاصة الحرب الدائرة على أرض الجنوب. كل ذلك يقع تحت قبعة واحدة: سيطرة الدويلة على الدولة، وإمساك «حزب الله» بكل مفاصلها، ووضع البلاد في عين عاصفة حرب المحاور الإقليمية، بقيادته محور الممانعة الموالي لإيران والخادم لمصالحها، والغرابة الأفظع تسليم الأطراف كافة بهذا الواقع، وترك لبنان يسير نحو المجهول.
الحدث الأبرز اليوم هو الحرب في جنوب البلاد المفتوحة على احتمالات ثلاثة: إما أن تتحول إلى حرب شاملة ومدمّرة تدفع البلاد برمتها فاتورتها، وإما «ميني-حرب» يبقى الجنوب ساحة لها، وإما تتواصل على ما هي عليه الآن؛ أي هجمات متبادلة بين الطرفين في لعبة إبراز القوة والقوة المضادة. في الاحتمالات الثلاثة، لبنان سيكون الخاسر، والخاسر الأكبر فيه هو البيئة الحاضنة لـ«حزب الله»، إن كان في الجنوب أو في البقاع، أو حتى في ضاحية بيروت الجنوبية، وما قد تحمله من تداعيات في الداخل. هذا المشهد يبرز أكثر ظاهرة المهرجانات والحفلات، كما يظهّر اختلاف وجهات النظر حولها؛ لا سيما مع تسييس عملية الدعاية لها. ثمة وجهة نظر تعد هذه الأنشطة فعل مقاومة في وجه «حزب الله» بمقاومته وعقيدته، كما في إحكام قبضته على القرار السياسي في البلاد. من خلالها، ينأى اللبنانيون بأنفسهم عما يقوم به الحزب، ويعربون عن تمسكهم بما يطلقون عليه «ثقافة الحياة» مقابل «ثقافة الموت» المنسوبة للحزب وحلفائه. وهم يرون أن الإصرار على هذه الأنشطة يعزز قدرة اللبنانيين على الصمود، ويحفظ الوجه المشرق الفرح الذي لطالما تميّز به لبنان، وشكّل جزءاً من هويته وعاداته: لبنان الفندق والمطعم والملهى والمسرح والمصرف والمشفى والجامعة، وكلها تعاكس المجتمع المقاوم الذي سعى -وما زال- «حزب الله» إلى فرضه على اللبنانيين. إلى ذلك، تؤمّن هذه الأنشطة مداخيل بالعملة الصعبة لبلد بأمسّ الحاجة إليها، عبر استقطابها المغتربين اللبنانيين والسياح من المنطقة وخارجها.
وجهة النظر الثانية معاكسة تماماً، على الرغم من تمسكها بمظاهر حب الحياة واستمرار الأنشطة السياحية وغيرها من الفعاليات الفنية. ما يجري وفق أصحاب وجهة النظر هذه هو تأمين غطاء جديد لـ«حزب الله» وإظهاره بمظهر المنفتح، مسقطاً الحجج القائلة بأن البلد رهينة سياساته وعقيدته «المعادية للحياة» بكل أشكالها، وتُنَهْشِل السياح العرب والأجانب، بوضعها البلاد دوماً على «كف عفريت». فالحزب احتضن مهرجانات بعلبك في عقر داره، ويسمح بأن تعم الحفلات الفنية جميع أنحاء البلاد، وهو يحمل وحده عبء الدفاع عن حدود البلاد الجنوبية، ويقدم وبيئته الشهداء والضحايا. إلى هذا، يتساءل أصحاب وجهة النظر هذه: كيف سيبرر اللبنانيون قدرتهم على تنظيم هكذا حفلات تتطلب كل منها ملايين الدولارات؟ وكيف يتحملون تكلفة حضورها؟ وهم يشتكون يومياً من ارتفاع تكلفة الحياة مستسلمين لكل ما يتعرضون له تحت غطاء الصمود والتكييف؟ وهل يعلمون من المستفيد من مداخيل هذه الحفلات؟
المشكلة ليست في ثقافة الحياة؛ بل في سوء تعريفها. حب الحياة يقضي بالحفاظ على حياة كريمة للبنانيين، عبر إحياء المؤسسات المنهارة، والحفاظ على المهددة منها، والسعي لتثبيت وتمكين المواطن في أرضه وعمله ومؤسسته وجامعته، وحماية التعليم المهدد والصحة، ودعم الإسكان، وتشجيع كل ما يتيح فرص عمل للشباب، والدفع لنهضة فكرية وأدبية وفنية تتخطى مجرد التمايل على أصوات تصدح. هذه هي مقومات حب الحياة وركيزة المقاومة، إذا صحّ أن هناك رغبة في المقاومة، ونكون عندها فعلاً مع ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة الموت.
حب الحياة والفرح سمة تلتصق باللبنانيين، الحفاظ عليها وحمايتها يحتّم موازاتها مع مقاومة سياسية صاحبة رؤية، تثبت أن لبنان لا يقتصر على الملهى والمرقص والفندق؛ بل له رؤية سياسية جدية واضحة، ومشروع مقاومة سياسية مدنية تقدم نموذجاً لبنانياً رصيناً، يتمسك بسيادته واستقلاله وهويته، مثل تمسكه بحب الحياة.
عسى ألا تكون هذه المهرجانات مسالك للهروب من الواقع؛ لا سيما أن النكران أضحى عادة من عادات اللبنانيين الراسخة، وحذارِ الإدمان على هذا السلوك.