خطورة الأحداث وسخونتها في الضفة الغربية لا تقل عما يجري في قطاع غزة. الخطة الإسرائيلية الممنهجة على مدى سنوات طويلة لتدمير حياة الفلسطينيين في كليهما، والتي تعمَّقت في ظل الحكومة الإسرائيلية الراهنة الأكثر تطرفاً وعنفاً، وزادت وتائرها بعد السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وتهدف إلى طرد الفلسطينيين من أراضيهم، ليست سراً على أحد. الأمر لم يعد مقولات للدعاية، بل باتت سياسة تُطبق أمام مسمع ومرأى العالم كله، المُصاب بصمت غريب، بينما تتعامل حكومة الحرب بثقة غير مسبوقة بأن لا أحداً في هذا الكون يمكنه وقف ما هو مخطط بشقيه؛ طرد الفلسطينيين وتوسيع الاستيطان، وفق قناعات صهيونية راسخة بأن كل فلسطين المحتلة من النهر إلى البحر لا تحتمل قوميتين أو شعبين، بل شعب واحد يرى نفسه الشعب المختار الذي يعلو على باقي البشر.
لم يعد يمر يوم واحد من دون اقتحامات من جيش الاحتلال وقطعان المستوطنين الهمجيين على العديد من القرى والبلدات الفلسطينية في حماية جيش الاحتلال ورعايته، فارتفع معدل الاقتحامات من 3 يومياً إلى سبعة يومياً وأكثر في بعض الأيام، بما في ذلك منع المزارعين أصحاب الأرض من قطف ثمار الزيتون والسطو على مواشيهم وممتلكاتهم، مصحوبة بالقتل والتخريب والطرد والاعتقالات العشوائية. فضلاً عن زيادة عدد الحواجز الأمنية إلى أكثر من 750 حاجزاً أمنياً قطعت أوصال الضفة ومنعت التواصل بين مدنها وقراها.
صحيح هناك بعض مواجهات من مجموعات شبابية مع قوات الاحتلال والمستوطنين لا سيما في مخيمَي جنين وطولكرم، تعكس قناعة البعض المقهور بأهمية المقاومة أياً كانت الظروف، وتجسّد غضباً مشروعاً، لكنها في النهاية لا تقود إلى تغييرات رئيسية في الحالة العامة ولا تحول دون وقف تلك الهجمة الرهيبة. لا سيما في ظل ترهل أداء السلطة الوطنية الفلسطينية اقتصادياً وأمنياً.
قبل عِقد من الزمن قدمت مجموعة الأزمات الدولية تحليلاً لما يجري في القطاع، رصدت فيه مجموعة من الأسباب التي تدفع كثيراً من الفلسطينيين إلى فقدان الثقة في السلطة ومؤسساتها. من بينها ضعف أداء المؤسسات التي يُفترض أنها تمهد لدولة تتم إدارتها وفق معايير دولية؛ ما أدى إلى سطوة رؤساء البلديات ورموز عشائرية على المناطق التي ينتمون إليها، ومسؤولون لم يغادروا مناصبهم لسنوات طويلة، وحرصهم على بقاء الأوضاع كما هي دون تغيير، والصراعات بين أجنحة داخل حركة «فتح»، وتمسك بعضها بمبدأ الهدوء لعل الطرف الآخر يقبل بدور للسلطة في مفاوضات دولة فلسطينية ليست في الأفق، لا قبل عِقد من الآن، وربما بعد عِقد تالٍ من الآن.
تحليل قديم، ولكنه ما زال صالحاً في فهم الكثير مما يجري الآن في الضفة الغربية المغضوب عليها. إن فقدان الجمهور الثقة في المؤسسات، لا سيما في مراكزها العليا، لا يضعفها وحسب، بل يقود إلى المزيد من الترهل والضعف، واللامبالاة، وهى محصلة تدفع الاحتلال إلى مزيد من الضغط ومزيد من الإضعاف الممنهج، وهو ما نراه في قرارات حكومة الاحتلال منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بوقف التحويلات المالية الناتجة من الجمارك التي تُحصّلها إسرائيل نيابة عن السلطة، ثم السماح بتقطيعها، وخصم مخصصات كبيرة منها، بدعوى أنها تدعم الإرهاب الفلسطيني، وأخيراً وقف التحويلات كلياً. ولا تبدو لدى السلطة أدوات كثيرة تساعدها في استعادة تلك الأموال، ما يزيد من الأزمة الاقتصادية للضفة ككل، ويُعمّق الشرخ القائم بين الناس المقهورة وبين رموز السلطة التي يبدو حرصها على حالة الهدوء الخادع أكثر من أي شيء آخر. لا سيما في ظل إصلاحات غائبة تبدو ضرورية أكثر من أي وقت مضى.
يزداد الأمر سوءاً في الاندفاع غير المسبوق لإقامة مستعمرات صهيونية، مدفوعاً بقرار وزير الدفاع بإلغاء قرار سابق يعود للعام 2005 أزال الشرعية القانونية عن الكثير من المستوطنات كمرحلة من الفصل بين ما هو إسرائيلي وما هو فلسطيني. والآن، أصبحت استعادة تلك المستعمرات أمراً قانونياً، كما أصبح قضم والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية أمراً معتاداً.
إضعاف السلطة إلى حد الانهيار والاختفاء وإفساح المجال أمام الاستيطان المنفلت، بدأ يقلق جزئياً بعض محللي جهاز الأمن الداخلي (الشاباك)، الذين يرون وفقاً لآخر نصائحهم لحكومة الحرب، أن انهيار السلطة يعني فوضى عارمة، وجبهة أكثر خطورة مما يجري في قطاع غزة وعلى الحدود الشمالية مع «حزب الله». آخرون يرون الأمر بشكل مختلف، فانهيار السلطة يعني عودة الاحتلال الصريح إلى كل الضفة؛ ما يعني ليس فقط إنهاء ما يعرف بحل الدولتين، بل إنهاء فكرة الدولة اليهودية الخالصة ذاتها، في حين يبقى تمسك الفلسطينيين بأراضيهم رغم المعاناة الهائلة والتضحيات الكبرى، هو العامل الحاسم الآن وفي المستقبل معاً، مع شرط لازم يُعنى باستعداد كل مكونات المجتمع الفلسطيني لمرحلة مختلفة من الكفاح، كما كان الحال في جنوب أفريقيا التي كانت نظاماً للفصل العنصري، تمت إزالته بالوحدة والنضال دون هوادة.